للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَيحك حَسبك، ثمَّ اقل: يَا غُلَام! اذْهَبْ بهَا إِلَى فلَان فَقل لَهُ: اقْطَعْ لسانها، فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَك الْأَمِير: اقْطَعْ لسانها، قَالَ: فَأمر بإحضار الْحجام، والتفتت إِلَيْهِ وَقَالَت: ثكلتك أمك، أما سمعة مَا قَالَ، إِنَّمَا أَمرك أنَّ تقطع لساني بِالْبرِّ والصلة فَبعث إِلَيْهِ يستثبته، فاستشاطَ الحجّاج غَضبا وهم بِقطع لِسَانه، وَقَالَ: اردُدها، فَلَمّا دخلت عَلَيْهِ، قَالَت: كَاد - وَأَمَانَة اللَّه - أَيهَا الْأَمِير يقطع مقولي، ثمَّ أنشأت تَقول:

حجاج أَنْت الَّذِي مَا فَوْقه أحد ... إِلَّا الْخَلِيفَة والمستغفر الصمدُ

حجاج أَنْت شهَاب الْحَرْب إِن لقحت ... وَأَنت للنَّاس نور فِي الدجى يقدُ

ثمَّ أقبل الْحجَّاج على جُلَسَائِهِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ من هَذِه؟ قَالُوا: لَا وَالله أَيهَا الْأَمِير، إِلَّا أننا لَمْ نر امْرَأَة قَط أفْصح لِسَانا وَلَا أحسن محاضرة، وَلَا أصبح وَجها وَلَا أرصن شعرًا مِنْهَا، فَقَالَ: هَذِهِ ليلى الأخْيِلِية الَّتِي مَاتَ تَوْبَة الخفاجي من حبها، ثُمَّ الْتفت إِلَيْهَا، فَقَالَ: أنشدينا يَا ليلى بَعْض مَا قَال فِيك تَوْبَة، فَقَالَت: نَعَمْ أَيهَا الْأَمِير، هُوَ الَّذِي يَقُولُ:

وَهل تبكين ليلى إِذَا متُّ قبلهَا ... وقامتْ عَلَى قَبْرِي النِّسَاءُ النوائحُ

كَمَا لَوْ أصَاب الموتُ ليلى بكيتُها ... وجَادَ لَهَا دمعُ من الْعين سافحُ

وأُغْبَطُ من ليلى، بمالاً أنالهُ ... بَلَى كُلُّ مَا قَرَّتْ بِهِ العَيْن صَالِحُ

وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَفَوْقِي تُرْبة وصفائحُ

لسلّمتُ تَسْلِيم البَشَاشَةِ أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صائحُ

فَقَالَ لَهَا: زيدينا يَا ليلى من شعره، فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ الَّذِي يَقُولُ:

حمامةَ بطن الواديَيْنِ تَرَنّمِي ... سقاك من الْغُرِّ الغَوَادِي مطيرُها

أبيني لَنَا لَا زَالَ ريشُك نَاعِمًا ... وَلَا زلتِ فِي خَضْراء دَانٍ نَضِيرُها

وأشرفُ بالقَوْزِ اليَفَاع لعلّني ... أرى نَار ليلى أَوْ يراني بَصِيرُها

وَكنت إِذَا مَا جئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ ... فَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الغَدَاةَ سُفُورُها

يَقُولُ رَجالٌ لَا يُضيرُك نأيُها ... بلَى كلُّ مَا شفَّ النفوسَ يضِيرُها

بلَى قَدْ يضير الْعين أَن تكْثر البك ... ى يمْنَع مِنْهَا نومُها وسرورُها

وَقد زعمتْ ليلى بأنِّيَ فاجرٌ ... لنَفْسي تقاها أَوْ عَلَيْهَا فجورُها

فَقَالَ الحَجَّاج: يَا ليلى! مَا الَّذِي رابه من سفورك؟ قَالَتْ: أَيهَا الْأَمِير! كَانَ يُلِمّ بِي كثيرا فَأرْسل إليَّ يَوْمَا: أَنِّي آتِيك، فَفطن الحيُّ فأرصدُوا لَهُ، فَلَمّا أَتَانِي سَفِرتُ فَعلم أنَّ ذَلِكَ لشرّ، فَلم يزدْ عَلَى التَّسْلِيم وَالرُّجُوع، فَقَالَ: لله درُّك! فَهَل رَأَيْت مِنْهُ شَيْئا تكرهينه؟

<<  <   >  >>