للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهذه الصحة النحوية، والمطابقة لقواعد لإعراب لا تكفي لتحقيق البلاغة ما دام التقديم والتأخير قد مزق أوصال العبارة كما رأيت، وكذلك قول ابن المقفع: "ليعلم إخوانك والعامة أنك إن استطعت أن تكون إلى أن تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل فعلت"، وهذا الذي ذكرناه هنا هو ما ألم به الأستاذ عبد القاهر الجرجاني في معرض القول في نظم الكلام وتأليفه حيث يقول١: "فإن قلت: أفليس هو كلامًا قد اطرد على الصواب، وسلم من العيب؟ أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟ قيل: أَمّا والصواب كما ترى فلا؛ لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان، والتحرز من اللحن، وزيغ الإعراب فنعتد بمثل هذا الصواب وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه، ويصعب الوصول إليه، وكذلك لا يكون ترك خطأ تركا حتى يُحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر، وفضلِ روية، وقوة ذهن، وشدة تيقظ، وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعُنى به، حتى إذا وازنت بين كلام وكلام دريت كيف تصنع، فضممت إلى كل شكل شكله، وقابلته بما هو نظير له وميزت ما الصنعة منه في لفظه مما هي منه في نظمه، ثم ذكر مثالا لحسن التأليف قول الشاعر:

سَالتْ عليِه شِعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير

"فإنك ترى هذه الاستعارة على لطفها وغرابتها، وإنما تم لها هذا الحسن وانتهى إلى حيث انتهى، بما توخى في وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك، ومؤازرته لها، وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف، فأزل كلا منهما عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه


١ ص٧٧ دلائل الإعجاز. ويلاحظ أن نظم الكلام يقابل الأسلوب ولكننا آثرنا الثانية لخفتها وشيوعها.

<<  <   >  >>