للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٠٥ - فصل

وعند أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرى به في اليقظة لا في المنام من المسجد الحرام (١) أي الحرام، وقيل: أسرى به من بيت خديجة بنت خويلد، وقيل: من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وقيل: من بين زمزم والمقام إلى بيت المقدس وركب البراق، ثم عرج به إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى ورأى ربه.

واختلفت الرواية عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فروي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "رأى ربه بعيني رأسه". وروي عن أبي ذر وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما قالا رآه بعيني قلبه (٢)، وقد أنكر المعتزلة والقدرية الإسراء، وقالوا إنما كان ذلك رؤية في المنام (٣)، والقرآن والروايات تبطل


(١) الذي عليه جمهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن الإسراء كان في اليقظة أسري بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم من المسجد إلى المسجد الأقصى، وقيل: إن الإسراء كان بالروح لا بالجسد وهو مروي عن عائشة - رضي الله عنها - ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - والحسن البصري. ذكر ذلك عنهم ابن إسحاق، وقيل إن الإسراء كان بالمنام، ذكر ذلك ابن حجر عن ابن ميسرة التابعي، وقيل إنه وقع أكثر من مرة منها ما هو منام ومنها ما هو يقظة، وهذا قول من رام الجمع بين روايات الأحاديث المختلفة.
ومن العلماء من توقف في تحديد أي الأمرين كان، وهو قول ابن إسحاق صاحب المغازي، والذي عليه المعول عند العلماء هو قول الجمهور لتظاهر الأدلة على ذلك وصراحتها فيه. انظر: تفسير ابن جرير ١٥/ ١٦، سيرة ابن هشام ٢/ ٣٢ - ٣٦، زاد المعاد ٣/ ٣٤ - ٤٢، شرح العقيدة الطحاوية ص ٢٤٦، فتح الباري ٧/ ١٩٧.
(٢) سيورد المصنف الأدلة على هذه الأقوال في الصفحات الآتية.
(٣) مراده بذلك المعراج لأنه يطلق عليه اسم الإسراء، فقد ترجم البخاري في كتاب الصلاة (ب. كيف فرضت الصلاة في الإسراء)، وكذلك فعل النووي في شرح مسلم في كتاب الإيمان حيث ترجم (ب. الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات).
والمعتزلة يثبتون الإسراء من مكة إلى بيت المقدس بالجسد والروح، فإن القاضي عبد الجبار المعتزلي قال في كتابه "تثبيت دلائل النبوة" ما نصه في بيان المعجزات الحسية: "إنه صلى الله عليه وسلم أسري به في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عاد من ليلته إلى مكة، ومدة السفر في ذلك مقدار شهرين أي ذهاباً وإياباً، وهذا لا يفعله الله إلا للأنبياء في زمن الأنبياء" تثبيت دلائل النبوة ١/ ٤٦. فقد صرح هنا بأن الذهاب إلى المسجد الأقصى يحتاج لشهرين وهذا بالطبع خاص بالجسد والروح، وقد بين هنا أيضاً أن الله خرق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم فذهب وعاد من ليلته، فلو كان يرى أن الإسراء كان مناماً لم يجعله من دلائل النبوة، لأن المنام يقع فيه مثل هذا وأكثر للأنبياء وغيرهم، أما المعراج، فإنهم لا يثبتونه ولا يصرحون بعدم وقوعه، فقد قال القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني ١٦/ ٤١٩ في الكلام على المعجزات ما نصه: "ومن ذلك ما خبر به صلى الله عليه وسلم، وشهد القرآن بصحته ووقع التصديق من الكافة، من أنه أسري به إلى بيت المقدس حتى خبرهم بالأمور التي شاهدها، فإن ثبت مع ذلك ما يروى في حديث المعراج أو بعض ذلك فهو أوكد في الدلالة، وإن كان القدر الذي شهد القرآن بصحته فهو ما قدمناه".
وصاحب كتاب إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أبي الحسن أحمد بن الحسين الهاروني الزيدي أثبت في كتابه الإسراء إلى بيت المقدس وأغفل الكلام عن المعراج.
والذي يظهر أن إغفالهم للمعراج ليس سببه عدم ثبوت نصوصه، لأنهم أثبتوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أقل شهرة وأضعف إسناداً من قصة المعراج، لأن قصة المعراج ثابتة متواترة كما سيأتي بيان المصنف لذلك، وإنما السبب لإغفالهم المعراج أن فيه إثباتاً لأمور ينكرونها وهي إثبات العلو لله عزوجل والكلام والنسخ قبل التمكن من الامتثال، يدل على هذا كلام أبي الحسين البصري في المعتمد في أصول الفقه ١/ ٤١٢ في إنكاره للنسخ قبل الفعل قال: "ومنها - يقصد من أدلة المثبتين - قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء فرض الله عزوجل عليه وعلى أمته خمسين صلاة صلاة، فأشار عليه موسى عليه السلام بالرجوع وأن يشفع في النقصان وأنه قبل ما أشار عليه، فردت الصلاة إلى خمس بعد رجعات وذك نسخ قبل الوقت. والجواب: أن ذلك خبر واحد لا يجب قبوله فيما يجب أن نعلم، وأيضاً فإن الخبر يتضمن من أنواع التشبيه ما يدل على أن أكثره موضوع" انتهى.
فهذا يدل على أن إنكارهم له لما تضمن من إثبات الصفات لله عزوجل، وهذا رد منهم بالهوى لأن المعراج ثبت بالأحاديث الصحيحة المتوترة كما سيأتي بيانه. وقد عزا الإسفرائيني في التبصير في الدين ص ٦٦ إلى المعتزلة إنكار المعراج، وأن هذا من الأمور التي أجمعوا عليهان وتابعه على هذا صاحب فرق وطبقات المعتزلة انظره ص ١٣٤.
ولم أقف على من عزا إليهم القول بأن المعراج كان مناماً، فلعل المصنف - رحمه الله - وقف على شيء من هذا، لأن القول بأن المعراج كان مناماً لا يورد عليهم ما ينكرونه من الصفات وغيرها، فلعلهم قالوا به، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>