للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَابُ الْمُهُورِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فَعَقَدَ الْإِبَاحَةَ بِشَرِيطَةِ إيجَابِ بَدَلِ الْبُضْعِ هُوَ مَالٌ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَدَلَ الْبُضْعِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَا يُسَمَّى أَمْوَالًا. وَذَلِكَ; لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي إبَاحَةِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْ يَبْتَغِيَ الْبُضْعَ بِمَا يُسَمَّى أَمْوَالًا, كَقَوْلِهِ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتِهِ عَلَيْهِ, وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْمَهْرِ, فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ", وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ, وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ: "يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى قَلِيلِ الْمَهْرِ وَكَثِيرِهِ". وَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ, فَقَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ, وَقَالَ آخَرُونَ: النَّوَاةُ عَشَرَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: "أَقَلُّ الْمَهْرِ رُبْعُ دِينَارٍ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: "يَجُوزُ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَلَوْ دِرْهَمٌ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا لَا يَكُونُ مَهْرًا وَأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يُسَمَّى أَمْوَالًا, هَذَا مُقْتَضَى الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا, وَمَنْ كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمَانِ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ, فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أَمْوَالٌ وَقَدْ أَجَزْتهَا مَهْرًا قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ يَقْتَضِي الظَّاهِرُ, لَكِنْ أَجَزْنَاهَا بِالِاتِّفَاقِ, وَجَائِزٌ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ; وَأَيْضًا قَدْ رَوَى حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ". وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ, وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ; وَتَقْدِيرُهُ الْعَشَرَةَ مَهْرًا دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا يدل على أنه

<<  <  ج: ص:  >  >>