للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مطلب: إذا اجتمع سبب الجظر والإباحو كَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ

وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّهَا الْمَنْطُوحَةُ حَتَّى تَمُوتَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النَّاطِحَةُ حَتَّى تَمُوتَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا, فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَمُوتَ مِنْ نَطْحِهَا لِغَيْرِهَا وَبَيْنَ مَوْتِهَا مِنْ نَطْحِ غَيْرِهَا لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ حَتَّى يَمُوتَ, فَحَذَفَ; وَالْعَرَبُ تُسَمِّي مَا قَتَلَهُ السَّبُعُ وَأَكَلَ مِنْهُ أَكِيلَةُ السَّبُعِ, وَيُسَمُّونَ الْبَاقِيَ مِنْهُ أَيْضًا أَكِيلَةُ السَّبُعِ; قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} مِمَّا أَكَلَ السَّبُعُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ وَإِنَّمَا هُوَ فَرِيسَتُهُ. وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْمَوْتُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَحْدُثُ عَنْهَا الْمَوْتُ لِلْأَنْعَامِ مَحْظُورٌ أَكْلُهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ فِعْلِ آدَمِيٍّ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ دُونَ جَمِيعِهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لَا خِلَافَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ رَاجِعٍ إلَيْهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ الذَّكَاةُ, وَقَدْ كَانَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ, وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَى مَا قَبْلَ الْمُنْخَنِقَةِ; فَكَانَ حُكْمُ الْعُمُومِ فِيهِ قَائِمًا وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْمَذْكُورِ من عند قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} , لِمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَقَالُوا كُلُّهُمْ: "مَا أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ بِأَنْ تُوجَدَ لَهُ عَيْنٌ تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبٌ يَتَحَرَّكُ فَأَكْلُهُ جَائِزٌ". وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} دُونَ مَا تَقَدَّمَ; لِأَنَّهُ يَلِيهِ; وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ, لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ; وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ سَبُعًا لَوْ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْ لَحْمِ الْبَهِيمَةِ فَأَكَلَهَا أَوْ تَرَدَّى شَاةً مِنْ جَبَلٍ وَلَمْ يَشْفِ بِهَا ذَلِكَ عَلَى الْمَوْتِ فَذَكَّاهَا صَاحِبُهَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُبَاحُ الْأَكْلِ, وَكَذَلِكَ النَّطِيحَةُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا, فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ عِنْدِ قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وإنما قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ" كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:

<<  <  ج: ص:  >  >>