للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ حَدِّ الْمُحَارِبِينَ

حَدُّ الْمُحَارِبِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} هُوَ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ; لِأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُحَارَبَ; وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّى الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مُمْتَنِعِينَ مُجَاهِرِينَ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ مُحَارِبِينَ لَمَّا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَارَبَ غَيْرَهُ مِنْ النَّاسِ وَمَانَعَهُ, فَسُمُّوا مُحَارِبِينَ تَشْبِيهًا لَهُمْ بِالْمُحَارَبِينَ مِنْ النَّاسِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: ١٣] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: ٥و ٢٠] وَمَعْنَى الْمُشَاقَّةِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ يُبَايِنُ صَاحِبَهُ وَمَعْنَى الْمُحَادَّةِ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَدٍّ عَلَى وَجْهِ الْمُفَارَقَةِ وَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ بِذِي مَكَان فَيُشَاقُّ أَوْ يُحَادُّ أَوْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُبَايَنَةُ وَالْمُفَارَقَةُ, وَلَكِنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْمُعَادِيِّينَ إذَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ وَنَاحِيَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُبَايَنَةِ. وَذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُبَايَنَةِ, فكذلك قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا سُمُّوا بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِمُظْهِرِي الْخِلَافِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ إيَّاهُمْ مِنْ النَّاسِ. وَخُصَّتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بِهَذِهِ السِّمَةِ لِخُرُوجِهَا مُمْتَنِعَةً بِأَنْفُسِهَا لِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْتِهَاكِ الْحَرِيمِ وَإِظْهَارِ السِّلَاحِ, وَلَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ كُلُّ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى; إذْ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي الِامْتِنَاعِ وَإِظْهَارِ الْمُغَالَبَةِ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: ٥٧] وَالْمَعْنَى: يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ لَكَانُوا مُرْتَدِّينَ بِإِظْهَارِ مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَدْ يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَى مَنْ عَظُمَتْ جَرِيرَتُهُ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعْصِيَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ, وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ, إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى مُعَاذًا يَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: " الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيَاءِ شِرْكٌ مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ" فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ, وَلَمْ يَذْكُرْ الرِّدَّةَ; وَمَنْ حَارَبَ مُسْلِمًا عَلَى أَخْذِ مَالِهِ فَهُوَ مُعَادٍ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَارِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ. وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: "أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ" فَاسْتَحَقَّ مَنْ حَارَبَهُمْ اسْمَ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا, فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى أَشْعَثُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ حَارِثَةَ بن بدر حارب الله ورسوله

<<  <  ج: ص:  >  >>