للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مطلب: الحكم لِعُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الاقتصار به على السبب

رِدَّةً وَلَا يَخْلُو نُزُولُ الْآيَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَوْ الْمُوَادِعِينَ, فَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِي الْعُرَنِيِّينَ وَأَنَّهُمْ ارْتَدُّوا, فَإِنَّ نُزُولَهَا فِي شَأْنِهِمْ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهَا عَلَيْهِمْ; لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلسَّبَبِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ نُزُولَهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ شَيْئًا, وَإِنَّمَا تَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا; وَيَسْتَحِيلُ نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْأَمْرِ بِقَطْعِ مَنْ قَدْ قُطِعَ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ, فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُرَادِينَ بِحُكْمِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وَقَدْ رَوَى هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "كَانَ أَمْرُ الْعُرَنِيِّينَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ, وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ بَعْدَ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ وَاقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَمْلَ الْأَعْيُنِ, فَصَارَ سَمْلُ الْأَعْيُنِ مَنْسُوخًا بِالْآيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَدًّا مَعَهُ لَذَكَرَهُ; وَهُوَ مِثْلُ مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ عُبَادَةَ: "فِي الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ" ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: ٢] فَصَارَ الْحَدُّ هُوَ مَا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ, وَصَارَ النَّفْيُ مَنْسُوخًا بِهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ فِي الْعُرَنِيِّينَ وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهُمْ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ سَمْلِ الْأَعْيُنِ, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ إجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا مُرَادِينَ بِهَا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهَا عَلَيْهِمْ, فَلَمَّا لَمْ يُصْلَبُوا وَسَمَلَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا حِينَئِذٍ, فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وَأَنَّهُ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْمُحَارِبِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>