للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مطلب يستحيل وُجُودُ النَّسْخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ النَّسْخِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُتْرَكُ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي أَيِّ حَالٍ حَصَلَ مِنْ الْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ تَرْكُهُ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْهُ. وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ أَهْلُ عَصْرٍ دُونَ عَصْرٍ. وَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ بِحُكْمِ الْآيَةِ عَلَى إجْمَاعِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ دُونَ أَهْلِ سَائِرِ الْإِعْصَارِ لَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى إجْمَاعِ أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ دُونَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إلَى الْمَوْجُودِينَ فِي حَالِ نُزُولِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمَخْصُوصُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي حُكْمِهِمْ إلَّا بِدَلَالَةِ قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} هُوَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ: أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: ١٨٣] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: ٨٧] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِهَا: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَوْجُودًا فِي عَصْرِهِ وَمَنْ جاء بعده. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: ٤٥] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١٠٧] وَمَا أَحْسِبُ مُسْلِمًا يَسْتَجِيزُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهَا وَشَاهِدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَحْمَةً لِكَافَّتِهَا.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وَاسْمُ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّمَا حُكْمُ لِجَمَاعَتِهَا بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ لِأَهْلِ عَصْرٍ وَاحِدٍ بِالْعَدَالَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَمِنْ أَيْنَ حَكَمْتَ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ بِالْعَدَالَةِ حَتَّى جَعَلْتهمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا جُعِلَ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَوْ يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، فَلَوْ اُعْتُبِرَ أَوَّلُ الْأُمَّةِ وَآخِرُهَا فِي كَوْنِهَا حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِمْ، لعلمنا أن المراد أهل

<<  <  ج: ص:  >  >>