للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا خيرَ في عاشقٍ يُخفي صبابتهُ ... بالقولِ والشَّوقِ مِنْ زفراتهِ بادِي

يُخفي هواهُ وما يخفَى علَى أحدٍ ... حتَّى علَى العيسِ والرُّكبانِ والحادِي

وقال مسلم بن الوليد:

أمَّا الجميعُ فزايلوكَ لنيَّةٍ ... فمتَى تراهمْ راجعينَ قفُولا

تاللهِ ما علمَ السُّرورُ ولا الكرَى ... أنَّ الفراقَ منَ اللِّقاءِ أُدِيلا

فإذا زجرتُ القلبَ عادَ وجيبُهُ ... وإذا حبستُ الدَّمعَ فاضَ هُمولا

وإذا رجعتُ إلى الهوَى بعثَ الهوَى ... نفَساً يكونُ علَى الضَّميرِ دليلا

ولبعض أهل هذا العصر:

هُبونِي أخفيتُ الَّذي بي منَ الهوَى ... ألمْ يكُ عنْ ما بي ضميرٌ مُترجِما

وما زلتُ أستحيي منَ النَّاسِ أن أُرَى ... ظلوماً لإلفِي أوْ أُرَى متظلِّما

وباللهِ ما حلتُ الغداةَ عنِ الَّذي ... عهدتَ ولكنْ كنتُ إذْ ذاكَ مُنعما

وقدْ ذابَ قلبِي اليومَ شوقاً وصبوةً ... إليكَ وما ترْثِي لقلبِي منهُما

فلا تتعجَّبْ إنْ تظلَّمتُ مُحوَجاً ... فقدْ حانَ للمظلومِ أنْ يتظلَّما

وقال آخر:

لو كنتُ أُظهرُ ما أُكاتمكمْ بهِ ... هلْ كنتُ إلاَّ مُخبراً بودادِي

أفليسَ في نظَري تأمُّلُ بائنٍ ... يُنبيكَ عمَّا في ضميرِ فؤادِي

فهذه الجهات كلّها تنمُّ الهوَى على أهله وتدلُّ مشاهدتها على موضعه وربَّما كان إفراط التَّحفُّظ دالاً على هوى التَّحفُّظ لأنَّ التَّصنُّع الشَّديد يخرج عند العادة فيوقع التّهمة بمن استعمله لقد سمعت فتًى من أهل الأدب يقول لآخر من أهل الهوى وقد أفرط في احتشامه وحاذر أن يطَّلع على شيءٍ من حاله قد والله بلغ منِّي ما أراه بك على أنَّه ما يظهر لي من حالك إلاَّ كتمانك لأمرك.

ولبعض أهل هذا العصر في نحو ذلك:

أريتَنِي النَّجمَ يجري بالنَّهارِ فلا ... فرقاً أرَى بينَ إصباحِي وإمسائِي

أخفيتُ حبَّكَ حتَّى قدْ ضُنيتُ بهِ ... فصارَ يُظهرُ ما أُخفيهِ إخفائِي

[الباب الخامس والأربعون]

مَنْ لم يقعْ لهُ الهوَى باكتسابٍ لم ينزجرْ بالعتابِ

العلَّة في ذلك أنَّ المعاتبة إنَّما هي توقيف على مواضع المصلحة وتبين لما في الحال الَّتي بقي عليها المعاتب من المنقصة فمن كان أصل هواه اختياراً لنفسه فتبيَّن موضع النَّقص في اختياره رجع إلى قول عذَّاله ومن وقع هواه مضطراً بغلبة إلى الانقياد لإلفه لم يعلق العذل بسمعه لأنَّ العذل يأتيه من غير جهته والشَّيءُ لا يوجب زواله إلاَّ ضدُّ ما أوجب ثباته فكما أنَّ الهوَى الاختياريَّ يضادُّه التَّوقيف على مواضع الحال فيوجب على صاحبه أن يختار إزالته فكذلك الهوَى الاضطراريُّ لا يزايله إلاَّ اضطرارٌ يضادُّه والهوَى الاختياريُّ أيضاً على ضعفه لا تمحوه ضروريَّته ولا تعارض في تركه لأنَّها تجيء من غير جهته وهو لا يزول إلاَّ بزوال الجهة الَّتي أوجبته إذْ محالٌ أن يكون شيءٌ علَّةً لشيءٍ فيزول المعلول والعلَّة قائمةٌ.

ولقد أحسن عمر بن ضبيعة الرقاشي حيث يقول:

قضَى اللهُ حبَّ المالكيَّةِ فاصطبرْ ... عليهِ فقدْ تجرِي الأُمورُ علَى قدرِ

ألا فليقلْ مَنْ شاءَ ما شاءَ إنَّما ... يُلامُ الفتَى فيما استطاعَ منَ الأمرِ

وللبحتري في نحو ذلك:

للحبِّ عهدٌ في فؤادِي لمْ يخنْ ... منه السُّلوُّ وذمَّةٌ لمْ تخفرِ

لا أبتغِي بدلاً بسُلمَى خُلَّةً ... فلتقتربْ بالوصلِ أوْ فلتهجرِ

وقال يحيى بن منصور:

يلومكَ فيها اللائمونَ كأنَّني ... لأمرِ الوشاةِ مستقيدٌ مسلِّمُ

وإنِّي أرَى العينَ الَّتي لا تُنيمُها ... إذا جعلتْ عينُ الوشاةِ تُنوِّمُ

فها أنا متروكٌ وبثِّي فإنَّهُ ... شتيتٌ بهِ أهواؤهُ متقسِّمُ

ولقد أحسن أبو تمام حيث يقول:

ألمْ ترَني خلَّيتُ عيني وشانَها ... ولمْ أحفلِ الدُّنيا ولا حدَثانَها

لقدْ خوَّفتْني النَّائباتُ صروفَها ... ولو آمنتْني ما قبلتُ أمانَها

عِنانٌ منَ اللَّذَّاتِ قدْ كانَ في يدي ... فلمَّا مضَى الإلفُ استردَّتْ عنانَها

يقولونَ هلْ يبكِي الفتَى لخريدةٍ ... متَى ما أرادَ اعتاضَ عَشراً مكانَها

<<  <   >  >>