للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأرى في هذه المقطوعة ومقطوعات قبلها ما يدلُّ على ضجر من المحجوب وقلَّة صبر منه على نازلات الخطوب ولعمري كان الضَّجر على ما لا يصلح منه الانتصار ولا ينبسط عليه الاقتدار مهجِّناً لمظهره ومزرياً بمستشعره فإنَّ من تسامح له الزَّمان وتغافلت عنه صروف الأيَّام فوقع في مرعى خصيب وظفر بما لم يأمله المحبوب ثمَّ عطفت عليه الأيَّام عطفة الحنق المغتاظ فاسترجعت ما أعطته واستردَّت ما أعارته لغير معنَّف على الحيرة والتَّخليط والتَّأسُّف على ما قدَّم من التَّفريط.

وفي هذا المعنى يقول بعض أهل هذا العصر:

ألا مَنْ لقلبٍ قدْ دعاهُ تَجاسُرُهْ ... وضاقتْ بهِ بعدَ الورودِ مصادرهْ

تغافلَ عنهُ الدَّهرُ فاغترَّ بالمُنى ... فلمَّا أضاعَ الحزمَ كرَّتْ عساكرهْ

فأصبحَ كالمأسورِ طالتْ عُداتهُ ... عليهِ وذلَّتْ بعدَ عزٍّ عشائرهْ

تجرَّتْ عليهِ النَّائباتُ فأصبحتْ ... بكلِّ الرَّدى غيرَ الحِمامِ تُبادرهْ

وقدْ كانَ صرفُ الدَّهرِ يُقبلُ نحوهُ ... إذا جالَ في بحرٍ منَ الفكرِ خاطرهْ

وأنشدني أبو طاهر الدمشقي في نحو ذلك:

ربَّ قومٍ قدْ غدَوْا في نعمةٍ ... وعُلا عزٍّ عَلا ثمَّ بسَقْ

سكتَ الدَّهرُ زماناً عنهمُ ... ثمَّ أبكاهمْ دماً حينَ نطقْ

وفي مثله يقول عدي بن زيد:

قدْ أرانَا وأهلُنا بخفيرٍ ... نحسبُ الدَّهرَ والسِّنينُ شُهورا

فأمِنَّا وغرَّنا ذاكَ حتَّى ... راعَنا الدَّهرُ إذْ أتانا مُغيرا

إنَّ للدَّهرِ صولةً فاحْذَروها ... لا تبيتنَّ قدْ أمنتَ الدُّهورا

قدْ ينامُ الفتَى صحيحاً فيردَى ... ولقدْ باتَ آمناً مستُورا

ولعمري قد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:

أعوامُ وصلٍ كانَ يُنسي طولَها ... ذكرُ النَّوى فكأنَّها أيَّامُ

ثمَّ انبرتْ أيَّامُ هجرٍ أُردفتْ ... بجوَى أسًى فكأنَّها أعوامُ

ثمَّ انقضتْ تلكَ السِّنينُ وأهلُها ... وكأنَّهمْ وكأنَّها أحلامُ

وعلى أنَّه لا ينبغي للعاقل أن يفرط في الجزع من غير الأيَّام فإنَّ الدَّهر حالٌ بعد حالٍ وكما كان اتِّصال السُّرور ذريعة إلى وقوع المحذور فكذلك ربَّما كان وقوع المكروه من أقوى الأسباب لرجوع المحابِّ ولقد أحسن كل الإحسان الَّذي يقول:

قدْ ينعمُ اللهُ بالبلوَى وإنْ عظُمتْ ... ويبتَلِي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعمِ

وقد قيل في ذم الحاجب والمحجوب أشياء لا تصلح من محبّ إلى محبوب غير أنَّا نصل بذكر بعضها الباب لأنَّها وإن لم تكن داخلة في حقيقته فإنَّها غير خارجة من جملته.

أنشدنا أبو الضياء لنفسه:

كلُّ حجابِ المرءِ نقصٌ بهِ ... وبعضهُ أقبحُ مِنْ بعضهِ

وحاجبُ المرءِ إذا اختارهُ ... لنفسهِ تاهَ علَى عِرضهِ

وربَّما ذُمَّ علَى تيههِ ... خليفةُ الرَّحمانِ في أرضهِ

وكمْ رأينَا حاجباً تائهاً ... قدْ أُبغضَ المحجوبُ مِنْ بُغضهِ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:

لمَّا رأيتُ أميرَنا متهجِّماً ... ودَّعتُ عرصةَ دارهِ بسلامِ

ورفضتُ صفحتهُ الَّتي لمْ أرضَها ... وأزلتُ عنْ رتبِ الدّناةِ مقامِي

ووجدتُ آبائِي الَّذينَ تقدَّموا ... سنُّوا الإباءَ علَى الملوكِ أمامِي

وقال أيضاً أحمد بن يحيى:

سأتركُ هذا البابَ ما دامَ إذنهُ ... علَى ما أرَى حتَّى تلينَ قليلا

إذا لمْ نجدْ يوماً إلى الإذنِ سلَّماً ... وجدْنا إلى تركِ المجيءِ سبيلا

وقال البحتري:

ولمَّا وقفْنا ببابِ الوزيرِ ... وقدْ رُفعَ السِّترُ أوْ جانبهْ

ظللْنا نُرجِّمُ فيكَ الظُّنونَ ... أحاجمُهُ أنتَ أمْ حاجبهْ

وقال ابن عبدوس لنفسه:

قدْ أتيناكَ وإنْ كنْ ... تَ بنا غيرَ حقيقِ

وتوخَّيناكَ بالبِ ... رِّ علَى بُعدِ الطَّريقِ

كلَّما جئناكَ قالوا ... نائمٌ غيرُ مفيقِ

لا أَنامَ اللهُ عينَيْ ... كَ وإنْ كنتَ صديقِي

[الباب الرابع عشر]

مَنْ مُنعَ منَ الوصولِ اقتصرَ علَى الرَّسولِ

<<  <   >  >>