للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ب- بيت الحكمة في رقادة:

بناه الأمراء الأغالبة بمدينة رقادة، بشمال إفريقية. وأرادوا له أن يكون على غرار بيت الحكمة الذي أسسه العباسيون في بغداد. وينسب بناء بيت الحكمة إلى إبراهيم الثاني الأغلبي الذي اشتهر بولعه الشديد بحب العلوم والحكمة، وهو الذي أنشأ أيضا مدينة رقادة سنة ٢٦٤هـ، ٨٧٨م.

ومن المرجح أن بيت الحكمة كان ملحقا بقصر رقادة، وكان يضم مجالس أو غرفا كثيرة بعضها للمكتبة وبعضها للنسخ وبعضها للدرس والمناقشة والمناظرة وبعضها للرصد. وكانت هذه الغرف مفروشة بالحصر واللباد والبسط القيروانية الشهيرة. وكان للأمير فيه سرير يجلس عليه ليشرف فيه على المناقشات أو المناظرات التي كانت تدور بين العلماء في حضرته. وكان محبو العلم والطلاب يفدون أيضا إلى بيت الحكمة للاطلاع ونسخ الكتب، وكان من يتولى الإشراف على بيت الحكمة يسمى "صاحب بيت الحكمة" كما أشرنا، وكان أبو اليسر إبراهيم الشيباني البغدادي تلميذ الجاحظ أول من تولى هذا المنصب وكان إلى جانب هذا يقوم بتدريس الأدب في بيت الحكمة. وكان الأمراء الأغالبة يوفدون في كل عام سفارة إلى البلاط العباسي لتجديد العهد ودفع الخرج السنوي، وكانوا يكلفون رئيس الوفد بأن يشتري لهم أنفس الكتب المؤلفة والمترجمة، وأن يجلب إلى رقادة فطاحل علماء العصر. وهكذا وجدت في بيت الحكمة مصنفات في جميع العلوم والفنون ومن مختلف الملل والنحل. كما وجد علماء أجلاء من مختلف أقطار العالم الإسلامي.

ولما انقرضت دولة بني الأغلب سنة ٢٩٦هـ آل بيت الحكمة إلى بني عبيد الفاطميين الذين انتزعوا الملك منهم. وبهذا أصبح بيت الحكمة مركز إشعاع للدعوة الفاطمية الإسماعيلية, وعندما أنشأ عبد الله المهدي الفاطمي مدينة المهدية سنة ٣٠٨هـ بتونس نقل إليها بيت الحكمة بما كان فيها من أثاث ونفائس وكتب وأدوات وآلات الرصد فأفل نجم رقادة إلى الأبد وتعطلت الرسالة الثقافية لبيت الحكمة وتحولت إلى حركة إسماعيلية، وبعد أن شع بعلومه وثقافته طيلة أربعين عاما. ولما انتقل الفاطميون إلى القاهرة حملوا معهم ما تجمع لديهم من الكنوز والنفائس العلمية وهكذا كانت مكتبة بيت الحكمة في رقادة النواة الأولى لمكتبة دار الحكمة التي بناها الفاطميون في مصر، كما كانت بيت الحكمة في القيروان نواة المدرسة الطبية القيروانية الشهيرة التي انتشر تأثيرها طيلة ثلاثة قرون متتالية.

<<  <   >  >>