للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(فَصْلٌ)

وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِقَاصَ الْحُقُوقِ عَلَى أَيُّ طَرِيقِ كَانَ أَسَاسٌ كَبِيرٌ لِزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ فِي الْمُجْتَمِعِ، وَسَبِيلٌ إِلى قَطْعِ الصَّلاتَ وَإِثَارَةِ الأَحْقَادِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ يَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الأَرْضِ، وَتَضِيعُ الْمَصَالِحُ، فَالْقِصَّةُ يُفْهَمُ مِنْهَا - كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - أَنَّ الْهَدَفَ هُو اقْتِلاعُ الْخَلْقِ الذِي يَدْفَعُ الإِنْسَانِ إِلى انْتِقَاصِ الْحُقُوقِ، وَالْكَيْدِ لأَصْحَابِهَا عَن طَرِيقِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ، وَعَنْ طَرِيقِ تَسْخِيرِ الْمَنَافِعِ الْعَامَةِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ، فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ اِلْخَاصَةِ، وَهَذَا هُوَ الذِي يَعْقِبُ حَقًّا الإِفْسَادَ فِي الأَرْضِ، وَزَلْزَلَةَ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ عَلَى أَصْحَابِهَا.

قَالَ: وَمِنْ هُنَا يَجْدُرُ بِالْمُوَظِّفِ وَالْكُتَّابِ وَالْمُوَجِّهِ وَالْمُشِير وَالْمُعَلِّمِ أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَخْصِيصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فِي رِسَالَةِ شُعَيْبٍ، وَقَرْنِهَما بِعِبَادَةِ اللهِ، وَاعْتِبَارِ انْتِقَاصِهِمَا إِفْسَادًا فِي الأَرْضِ - يُجْدُرُ بِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ عِظَةً، وَأَجْدَى عِبْرَةً، وَإِنَّ انْتِقَاصَ الْكَيْل وَالْمِيزَانِ - فِيمَا وَرَاءَ السِّلَعِ الْمَادِيَّةِ - لأَشَدُّ خَطَرًا، وَأَقْبَحُ أَثَرًا، وَأَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ انْتِقَاصِ حَفْنَةٍ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ أَوْقِيَةٍ مِنْ رَطْلٍ.

إِنَّ مِنْ حَقِّ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِحَقِّهِ كَامِلاً غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِن عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنْ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَيُعَاوِنَه فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ إِذَا اسْتَرْشَدَهُ، وَأَنْ يَمْحَضَهُ النَّصْحَ إِذَا اسْتَنْصَحَهُ، وَأَنْ يَفِي لَهُ إِذَا عَاهَدَهُ، وَأَنْ يُصَدَقُهُ إِذَا حَدَّثَهُ أَوْ وَعَدَهُ، إِنَّها مُبَادَلَةُ وَلَكِنْ لَيْسَتْ فِي السِّلَعِ وَلا فِي الطَّعَامِ، وَلا فِي الشَّرَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْخَلْقِ وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقُ وَالإِيمَان، وَالانْحِرَافٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>