للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شك الزنادقة في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}

...

وأما قوله:

{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يعني في الدنيا دون الآخرة، وذلك أن اليهود قالوا لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ} [النساء: ١٥٣] .

فماتوا وعوقبوا لقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وقد سألت مشركو قريش النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: ٩٣] .

فلما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المسألة قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: ١٠٨] .

حين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ} الآية.

فأنزل الله سبحانه يخبر أنه {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، أي أنه لا يراه أحد في الدنيا دون الآخرة.

فقال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يعني في الدنيا، أما في الأخرة فإنهم يرونه. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة١.


١ قال ابن القيم رحمه الله: الدليل السادس قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: ١٠٣] والاستدلال بهذا أعجب، فإنه من أدلة النفاة.
وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال به أحسن تقرير وألطفه، وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله، إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية، أدل منها على امتناعها، فإن الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال ولا يمدح به.
وإنما يمدح الرب -تبارك وتعالى- بالعدم إذا تضمن أمرًا وجوديًّا كتمدحه، بنفي السِّنة والنَّوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللُّغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه، ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته، ولِمَ لَمْ يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرًا ثبوتيًّا، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أنه لا يرى بحال، ولم يكن في ذلك مدح ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار، والرب -جل جلاله- يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض، فإذا المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: ٦١] أنه يعلم كل شيء وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: ٣٨] أنه كامل القدرة، وفي قوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: ٤٩] أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: ٢٥٥] أنه كامل القيومية.
انظر: حادي الأرواح "ص: ٢٠٧، ٢٠٨".
وانظر أيضًا تفسير الطبري "٢٩٩/٧" "١٩١/١٤" وتفسير ابن كثير "١٧٤/٢" "٤٧٧/٤".

<<  <   >  >>