للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَحْسَبُونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

إذَا الْمَرْءُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ ... فَمَادِحُهُ يَهْذِي وَإِنْ كَانَ مُفْصِحَا

وَرُبَّمَا آلَ حُبُّ الْمَدْحِ بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَصِيرَ مَادِحَ نَفْسِهِ، إمَّا لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ غَفَلُوا عَنْ فَضْلِهِ، وَأَخَلُّوا بِحَقِّهِ.

وَإِمَّا لِيَخْدَعَهُمْ بِتَدْلِيسِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ مُتَّبَعٌ، وَصِدْقٌ مُسْتَمَعٌ. وَإِمَّا لِتَلَذُّذِهِ بِسَمَاعِ الثَّنَاءِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِالْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ، مَا يَتَغَنَّى بِنَفْسِهِ طَرَبًا إذَا لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا مُطْرِبًا وَلَا غِنَاءً مُمْتِعًا. وَلِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ الْجَهْلُ الصَّرِيحُ، وَالنَّقْصُ الْفَضِيحُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

وَمَا شَرَفٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّ أَعْمَالًا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ

وَمَا كُلُّ حِينٍ يَصْدُقُ الْمَرْءُ ظَنُّهُ ... وَلَا كُلُّ أَصْحَابِ التِّجَارَةِ يَرْبَحُ

وَلَا كُلُّ مَنْ تَرْجُو لِغَيْبِك حَافِظًا ... وَلَا كُلُّ مَنْ ضَمَّ الْوَدِيعَةَ يَصْلُحُ

وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرْشِدَ إخْوَانَ الصِّدْقِ الَّذِينَ هُمْ أَصْفِيَاءُ الْقُلُوبِ، وَمُرَائِي الْمَحَاسِنِ وَالْعُيُوبِ، عَلَى مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ الَّتِي صَرَفَهُ حَسَنُ الظَّنِّ عَنْهَا. فَإِنَّهُمْ أَمْكَنُ نَظَرًا، وَأَسْلَمُ فِكْرًا، وَيَجْعَلُونَ مَا يُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَسَاوِئِهِ عِوَضًا عَنْ تَصْدِيقِ الْمَدْحِ فِيهِ.

وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ إذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ» . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيْنَا مَسَاوِئَنَا.

وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَتُحِبُّ أَنْ تُهْدَى إلَيْك عُيُوبُك؟ قَالَ: نَعَمْ، مِنْ نَاصِحٍ. وَمِمَّا يُقَارِبُ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مَنْ تَرَى أَنْ نُوَلِّيَهُ حِمْصَ؟ فَقَالَ: رَجُلًا صَحِيحًا مِنْك، صَحِيحًا لَك. قَالَ: تَكُونُ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ. قَالَ: لَا تَنْتَفِعُ بِي مَعَ سُوءِ ظَنِّي بِك وَسُوءِ ظَنِّك بِي.

وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَظْهَرَ عَيْبَ نَفْسِهِ فَقَدْ زَكَّاهَا. فَإِذَا قَطَعَ أَسْبَابَ الْكِبْرِ وَحَسَمَ مَوَادَّ الْعُجْبِ اعْتَاضَ بِالْكِبْرِ تَوَاضُعًا وَبِالْعُجْبِ تَوَدُّدًا. وَذَلِكَ مِنْ أَوْكَدَ

<<  <   >  >>