للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يُمَدُّ بِمَشُورَةٍ.

وَقَدْ قَالَتْ الْفُرْسُ فِي حِكَمِهَا: أَضْعَفُ الْحِيلَةِ خَيْرٌ مِنْ أَقْوَى الشِّدَّةِ. وَأَقَلُّ التَّأَنِّي خَيْرٌ مِنْ أَكْثَرِ الْعَجَلَةِ، وَالدَّوْلَةُ رَسُولُ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ.

وَإِذَا اسْتَبَدَّ الْمَلِكُ بِرَأْيِهِ عَمِيَتْ عَلَيْهِ الْمَرَاشِدُ. وَإِذَا ظَفِرَ بِرَأْيٍ مِنْ خَامِلٍ لَا يَرَاهُ لِلرَّأْيِ أَهْلًا وَلَا لِلْمَشُورَةِ مُسْتَوْجِبًا اغْتَنَمَهُ عَفْوًا فَإِنَّ الرَّأْيَ كَالضَّالَّةِ تُؤْخَذُ أَيْنَ وُجِدَتْ، وَلَا يَهُونُ لِمَهَانَةِ صَاحِبِهِ فَيُطْرَحُ، فَإِنَّ الدُّرَّةَ لَا يَضَعُهَا مُهَانَةً غَائِصُهَا، وَالضَّالَّةَ لَا تُتْرَكُ لِذِلَّةِ وَاجِدِهَا. وَلَيْسَ يُرَادُ الرَّأْيُ لِمَكَانِ الْمُشِيرِ بِهِ فَيُرَاعَى قَدْرُهُ وَإِنَّمَا يُرَادُ لِانْتِفَاعِ الْمُسْتَشِيرِ.

وَأَنْشَدَ أَبُو الْعَيْنَاءِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ:

النُّصْحُ أَرْخَصُ مَا بَاعَ الرِّجَالُ فَلَا ... تَرْدُدْ عَلَى نَاصِحٍ نُصْحًا وَلَا تَلُمْ

إنَّ النَّصَائِحَ لَا تَخْفَى مَنَاهِجُهَا ... عَلَى الرِّجَالِ ذَوِي الْأَلْبَابِ وَالْفَهْمِ

ثُمَّ لَا وَجْهَ لِمَنْ تَقَرَّرَ لَهُ رَأْيٌ أَنْ يَنِيَ فِي إمْضَائِهِ، فَإِنَّ الزَّمَانَ غَادِرٌ وَالْفُرَصُ مُنْتَهَزَةٌ وَالثِّقَةُ عَجْزٌ. وَقِيلَ لِمَلِكٍ زَالَ عَنْهُ مِلْكُهُ: مَا الَّذِي سَلَبَك مِلْكَك؟ قَالَ: تَأْخِيرِي عَمَلَ الْيَوْمِ لِغَدٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إذَا كُنْت ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ ... وَلَا تَكُ بِالتَّرْدَادِ لِلرَّأْيِ مُفْسِدَا

فَإِنِّي رَأَيْت الرَّيْبَ فِي الْعَزْمِ هُجْنَةً ... وَإِنْفَاذُ ذِي الرَّأْيِ الْعَزِيمَةَ أَرْشَدَا

وَيَنْبَغِي لِمَنْ أُنْزِلَ مَنْزِلَةَ الْمُسْتَشَارِ وَأُحِلَّ مَحَلَّ النَّاصِحِ الْمَوَادِّ حَتَّى صَارَ مَأْمُولَ النُّجْحِ، مَرْجُوَّ الصَّوَابِ، أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ، وَيُكَافِئَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ بِبَذْلِ النُّصْحِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ» . وَرُبَّمَا أَبْطَرَتْهُ الْمُشَاوَرَةُ فَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ فَاحْذَرْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ فَلَيْسَ لِلْمُعْجَبِ رَأْيٌ صَحِيحٌ وَلَا رَوِيَّةٌ سَلِيمَةٌ، وَرُبَّمَا شَحَّ فِي الرَّأْيِ لِعَدَاوَةٍ أَوْ حَسَدٍ فَوَرَّى أَوْ مَكَرَ فَاحْذَرْ الْعَدُوَّ وَلَا تَثِقْ بِحَسُودٍ.

وَلَا عُذْرَ لِمَنْ اسْتَشَارَهُ عَدُوٌّ أَوْ صَدِيقٌ أَنْ يَكْتُمَ رَأْيًا وَقَدْ اُسْتُرْشِدَ وَلَا أَنْ يَخُونَ وَقَدْ اُؤْتُمِنَ. رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُسْتَشِيرُ وَالْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دُرَيْدٍ:

<<  <   >  >>