للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَقْلِ ذِي عَقْلٍ حَتَّى يَجْعَلَهُ دِينًا؟ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: ٩] فَلَمْ يَقُلْ عَزَّ وَجَلَّ: فِي مَوْضِعٍ وَلَا مَوْضِعَيْنِ وَلَا أَقَلَّ، وَلَا أَكْثَرَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: ٦٤] .

فَإِنْ قَالُوا: قَدْ كَانَ أَهْلُ الْعَوَالِي يَشْهَدُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ.

قُلْنَا: نَعَمْ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ ذِي الْحُلَيْفَةِ يَجْمَعُونَ مَعَهُ أَيْضًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، وَلَا يَلْزَمُ هَذَا عِنْدَكُمْ، وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ مَعَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ سَائِرَ قَوْمِهِمْ لَا يُصَلُّونَ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَجْمَعُونَ سَائِرَ قَوْمِهِمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ، وَلَا يَحُدُّونَ هَذَا أَبَدًا؟ وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا افْتَرَضَ فِي الْقُرْآنِ السَّعْيَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا، لَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى نَحْوِ نِصْفِ مِيلٍ، أَوْ ثُلُثَيْ مِيلٍ لَا يُدْرِكُ الصَّلَاةَ أَصْلًا إذَا رَاحَ إلَيْهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّوَاحِ إلَيْهَا.

فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ يَجْمَعُونَ فِيهِ إذَا رَاحُوا إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرُوا بِالرَّوَاحِ إلَيْهِ فِيهِ أَدْرَكُوا الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاةَ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ أَوْجَبَ الرَّوَاحَ حِينَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَإِيجَابُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى الْمَدِينَةَ وَإِنَّمَا هِيَ قُرًى صِغَارٌ مُفَرَّقَةٌ، بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَتِهِمْ حَوَالِي دُورِهِمْ أَمْوَالُهُمْ وَنَخْلُهُمْ، وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ فِي دَارِهِمْ كَذَلِكَ، وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَذَلِكَ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَذَلِكَ، وَسَائِرِ بُطُونِ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ، فَبَنَى مَسْجِدَهُ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَجَمَعَ فِيهِ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَتْ بِالْكَبِيرَةِ، وَلَا مِصْرَ هُنَالِكَ.

فَبَطَل قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنْ لَا جُمُعَةَ إلَّا فِي مِصْرٍ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، بَلْ هُوَ نَقْلُ الْكَوَافِّ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ إلَى غَرْبِهَا، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>