للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَالٍ - هُوَ الْمَازِنِيُّ - قَالَ «اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْدِنَ الْمِلْحِ الَّذِي بِمَأْرِبَ؟ فَأَقْطَعَنِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ قَالَ: فَلَا إذًا» .

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْطَعَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ فَمَا مَعْنَى إقْطَاعِهِمْ؟ قُلْنَا: أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الَّذِي لَهُ الْحِمَى وَالْإِقْطَاعُ، وَاَلَّذِي لَوْ مَلَّكَ إنْسَانًا رَقَبَةَ حُرٍّ لَكَانَ لَهُ عَبْدًا - وَأَمَّا مَنْ دُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلتَّشَاحِّ وَالتَّنَازُعِ، وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَيْسَ الْمَرْعَى مُتَمَلَّكًا، بَلْ مَنْ أَحْيَا فِيهِ فَهُوَ لَهُ، وَيُقَالُ لِأَهْلِ الْمَاشِيَةِ: أَعْزِبُوا وَأَبْعِدُوا فِي طَلَبِ الْمَرْعَى، وَإِنَّمَا التَّمَلُّكُ بِالْإِحْيَاءِ فَقَطْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - وَالرَّعْيُ لَيْسَ إحْيَاءً، وَلَوْ كَانَ إحْيَاءً لَمَلَكَ الْمَكَانَ مَنْ رَعَاهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ فِي اللُّغَةِ وَفِي الشَّرِيعَةِ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ لِقَوْلِهِمْ فِي الصَّيْدِ الْمُتَوَحِّشِ بِأَسْخَفِ مُعَارَضَةٍ سُمِعَتْ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: الصَّيْدُ إذَا تَوَحَّشَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَاءً مِنْ بِئْرٍ مُتَمَلَّكَةٍ فِي وِعَائِهِ فَانْهَرَقَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ، أَيَكُونُ شَرِيكًا بِذَلِكَ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْبِئْرُ وَأَخْذُ الْمَاءِ مِنْهَا لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً أَوْ مُتَمَلَّكَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَضْعَافَ مَا انْهَرَقَ لَهُ إنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ إنْ شَاءَ، كَمَا يَتْرُكُ النَّاسُ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيُبِيحُونَهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، كَالنَّوَى، وَالتِّبْنِ، وَالزِّبْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ كُلِّ ذَلِكَ لَمْ يُطْلِقْهُ، وَلَا أَبَاحَ أَخْذَهُ لِأَحَدٍ، لَكَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَمَا حَلَّ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ، فَلَا يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - إلَّا بِإِبَاحَتِهِ لَهُ، أَوْ حَيْثُ أَبَاحَتْهُ الدِّيَانَةُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ «مَنْ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَلَوْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» ، فَأَيُّمَا أَكْثَرُ عِنْدَهُمْ - وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ - قَضِيبُ أَرَاكٍ،

<<  <  ج: ص:  >  >>