للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى: إنَّ كُلَّ عَبْدٍ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، إنَّمَا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الصِّفَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْرَارِ، وَمَنْ نَسَبَ غَيْرَ هَذَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ جِهَارًا، وَأَتَى بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَبِالْمُشَاهَدَةِ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ الْعَبِيدِ أَقْدَرَ عَلَى الْأَشْيَاءِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْرَارِ.

وَنَقُولُ لَهُمْ: هَلْ يَلْزَمُ الْعَبِيدَ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالطَّهَارَةُ، وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالْفُرُوجِ، كُلُّ مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْأَحْرَارِ، فَمَنْ قَوْلُهُمْ: نَعَمْ، فَقَدْ أَكَذَبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَشَهِدُوا بِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ وَتَمْوِيهُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَالُوا: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: ٢٨٢] .

قَالُوا: وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ خِدْمَةَ سَيِّدِهِ.

فَقُلْنَا: كَذَبَ مَنْ قَالَ هَذَا، بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَمَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَى النُّهُوضِ إلَى مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّينِ.

وَلَوْ سَقَطَ عَنْ الْعَبْدِ الْقِيَامُ بِالشَّهَادَةِ لِشُغْلِهِ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ لَسَقَطَ أَيْضًا عَنْ الْحُرَّةِ ذَاتِ الزَّوْجِ لِشُغْلِهَا بِمُلَازَمَةِ زَوْجِهَا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَبْدُ سِلْعَةٌ وَكَيْفَ تَشْهَدُ سِلْعَةٌ؟ فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا؟ تَشْهَدُ السِّلْعَةُ، كَمَا يَلْزَمُ السِّلْعَةَ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ - وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَعَلَّقًا، لَا بِقُرْآنٍ، وَلَا بِسُنَّةٍ، وَلَا رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا سَقِيمَةٍ، وَلَا نَظَرٍ وَلَا مَعْقُولٍ، وَلَا قِيَاسٍ، إلَّا بِتَخَالِيطَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَأَهْذَارٍ بَارِدَةٍ - وَقَدْ تَقَصَّيْنَا هَذَا فِي " كِتَابِ الْإِيصَالِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكُلُّ نَصٍّ فِي قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّهَادَاتِ فَكُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ قَوْلِنَا، إذْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَخْصِيصَ عَبْدٍ مِنْ حُرٍّ فِي ذَلِكَ لَكَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: ٦٤]

قَالَ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢] .

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: ٧] {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: ٨] .

<<  <  ج: ص:  >  >>