للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالظُّلْمِ، لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكَان فِي الْأَرْضِ، لَكِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَصَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ الْقِتَالُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُقَاتِلُ فِي مَكَّةَ، وَلَا قَتْلَ إلَّا بِحَقٍّ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ بِعَيْنِهِ غَيْرَهُ، وَحَرَّمَ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي مِثْلِهِ، وَقَطْعُ الْأَيْدِي فِيهِ سَفْكُ دَمٍ، وَالْقِصَاصُ كَذَلِكَ، فَلَا يَحِلُّ فِيهَا أَلْبَتَّةَ.

وَقَدْ شَغَفَ قَوْمٌ: بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قُلْت لِمَالِكٍ: نا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ؟ فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ.» قَالَ: نَعَمْ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ حِينَ دُخُولِهِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ - وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ - ثُمَّ أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَنَّهَا قَدْ عَادَتْ إلَى حُرْمَتِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

فَإِذْ قَدْ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ وَجَبَ تَأْمِينُ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ جُمْلَةً مِنْ كُلِّ قَتْلٍ وَقِصَاصٍ وَحَدٍّ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِمَّنْ يَحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ: إنَّ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: ١٩٤] فَمَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةً فِي الْحَرَمِ وَجَبَ أَنْ يُنْتَهَكُ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ؟ قُلْنَا لَهُ: هَذَا عُمُومٌ يَخُصُّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: ٩٧] ، وَيَخُصُّهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْرِيمِهَا أَنْ لَا يُسْفَكَ فِيهَا دَمٌ أَصْلًا، إلَّا مَنْ قَاتَلَنَا فِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَبِالْإِجْمَاعِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ النَّفْسِ الظُّلْمَ.

فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ قَطُّ أَنَّ مَنْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ أَنْ نَنْتَهِكَهَا نَحْنُ أَيْضًا قِصَاصًا مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ.

وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ - وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ - وَبِهِ نَأْخُذُ.

وَأَمَّا نَهْيُ النَّاسِ عَنْ مُبَايَعَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْ الْبَيْعِ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلَا إجْمَاعٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>