للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بعض معاني سورة الفاتحة]

لعلنا الآن نتعرض لبعض المعاني في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] معنى الحمد: المدح المقرون بالمحبة التامة والتعظيم التام، وهذا هو الفرق بين المدح وبين الحمد، المدح قد يكون مع البغضاء ومع الاستهانة، لكن الحمد لا يكون أبداً إلا مع المحبة والتعظيم، قد يمدح الإنسان شخصاً وهو يبغضه لكن يمدحه خوفاً من شره أو رجاءً لما عنده، لكن الحمد مصحوب بالمحبة والتعظيم.

وما معنى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] أي: الخالق للعالم، المالك المدبر.

وما صلة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣] بـ {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لأنها جاءت بعدها: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صلتها: أن ربوبية الله عز وجل للعالمين ربوبية مبنية على الرحمة، فهو رب وفي نفس الوقت رحيم.

ثم ما صلة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] بما قبلها، نحن إذا قرأنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٢-٣] فإننا نتصور ونتخيل الدنيا، فجاء ذكر الآخرة بعد ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لينتقل الإنسان من حال الدنيا إلى حال الآخرة ويكون متعظاً.

ثم بعد هذا الثناء على الله والتعظيم لله، يأتي دور العبادة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:٥] ثم هل العبادة يقوم بها الإنسان بلا معونة الله؟

الجواب

لا.

فيأتي بعد ذكر العبادة الاستعانة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] .

ثم بعد إخلاص العبادة لله والاستعانة به يأتي دور الدعاء: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦-٧] .

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ} لم يقل (إلى) ولا (في) ما قال: اهدنا فيه، ولا اهدنا إليه، من أجل أن تشمل الهداية هداية الدلالة وهداية التوفيق، الإنسان بالنسبة للصراط المستقيم قد يكون بعيداً منحرفاً يميناً أو يساراً يحتاج هنا إلى ماذا؟ إلى هداية إليه أم هدايه فيه؟ إنسان بعيد عن الصراط المستقيم منحرف يمين أو يسار، يحتاج إلى هداية إليه أول يدله، نقربه إلى الصراط المستقيم، ثم بعد ذلك إذا دخل الصراط المستقيم يحتاج إلى هداية فيه، ولهذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} [الفاتحة:٦] ولم يقل: إلى الصراط، ليشمل الهداية التي هي الدلالة، والهداية التي هو التوفيق والثبات على الدين.

وصراط من؟ صراط الذين أنعم الله عليهم، ووصف الصراط أولاً بأنه مستقيم ثم أثنى على سالكيه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] .

الناس ثلاثة أقسام: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون.

وتأمل البلاغة العظيمة قال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: المنعم عليهم.

والأمة الغضبية ماذا قال؟ {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: الذين غضبت عليهم، لأن هذه الأمة الغضبية مغضوب عليها من قبل الله ومن قبل أولياء الله.

والضال ضد المهتدي، فالناس ثلاثة أقسام: - القسم الأول: عالم بالحق وعامل به: هذا منعم عليه، فكأن الذي يقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} كأنه يسأل الله العلم والعمل.

- القسم الثاني: عالم بالحق مستكبر عنه وهذا مغضوب عليهم.

- الثالث: جاهل بالحق وهذا ضال.

المغضوب عليهم اليهود، والمغضوب عليهم النصارى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، النصارى قبل بعثة الرسول ضالون، لكن بعد بعثة الرسول وعلمهم بالحق صاروا من قسم المغضوب عليهم، لاحظوا أنكم تجدون في كثير من كتب المفسرين أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، هذا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود جاءهم عيسى بالحق واستكبروا، فعلموا الحق واستكبروا عنه، النصارى ما جاءهم بعد عيسى رسول لكن تاهوا.

بعد مجيء محمد صار النصارى مثل اليهود بعد مجيء عيسى، يعني: قامت عليهم الحجة، فهم مغضوب عليهم ملعونون، كما لعن اليهود وغضب عليهم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (لعنة الله على اليهود والنصارى) ومع الأسف أنه يوجد الآن بيننا وفي بيوتنا خدم ومربيات كما يزعمون من أمة غضب الله عليها ولعنها والعياذ بالله! وإني لأعجب كيف تتردى أحوال المسلمين إلى هذه الحال، يربون أعداءهم بالمال وبالحفاوة، إلى حد أن وصل ضعف الدين ونقص العقل فصار الواحد يقول: إخواننا اليهود والنصارى -نعوذ بالله- إذا رأيت أن يكونوا إخوانك فأنت مثلهم.

يقول: أصحاب الأديان الثلاثة السماوية، دين اليهود والنصارى هل هو قائم الآن؟ لا منسوخ.

والذي نسخه هو الذي شرعه، رضيه لعباده ديناً في وقته وبعد مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام لا يرضى إلا الإسلام، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:٨٥] إذاً هي ليست ديانة قائمة الآن، لا قائم من هذه الأديان الثلاثة إلا دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) المراد بالصلاة هنا الفاتحة، لكن لعظمها في الصلاة وكون الصلاة لا تصح إلا بها، أطلق عليها الصلاة، كأن الفاتحة هي الصلاة كلها.

(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال: مجدني عبدي، وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) الحمد لله.

نعمة، والله! ليتنا نستحضر هذا المعنى، ليتنا نستحضر هذا المعنى ونحن نصلي، يكون للقراءة طعم ولذة وذوق، لا ننساه أبداً، لكن نسأل الله أن يعفو عنا، نقرأ تلاوة على اللسان ولا نستحضر هذه المعاني العظيمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>