للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وقفة مع قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)]

قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥] هل معنى هذا أن من لم يشهد لم يلزمه الصوم؟ اتفق العلماء أنه ليس الواجب أن يراه كل واحد، لأن هذا شيء متعذر، لكن إذا شهده من تثبت بشهادتهم الرؤية وجب الصوم، وبماذا تثبت الرؤية؟ رؤية شهر رمضان تثبت بشاهد واحد، إذا جاء إنسان عدل ثقة بدينه معروف بقوة البصر وشهد وقال: أشهد أني رأيت الهلال فإن الناس يصومون، لأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [تراءى الناس الهلال -يعني جعل بعضهم يري بعضهم الهلال- فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام] وابن عمر كان واحداً، إذا شهد شاهد بدخول رمضان فإنه يثبت دخوله، وكذلك شوال، لكن شوال لا يثبت إلا بشاهدين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا) فلابد من شاهدين؛ لأن شوال يكون فيه الفطر فاحتيج إلى الاحتياط فيه أكثر من رمضان، هكذا أيضاً علله بعض العلماء، لكن على كل حال سواء صحت هذه العلة أو غيرها فإن دخول رمضان يثبت بشهادة واحد، عدل في دينه، قوي في بصره، فلو جاءنا رجل ضعيف البصر لكن عدل في الدين ما فيه إشكال، وشهد أنه رأى الهلال، ونحن نعرف أن بصره ضعيف هل يقبل؟ لا يقبل، لماذا؟ لأن بصره ضعيف، ونعلم أن ما رآه تخيل أو توهم.

ويذكر أن بعض القضاة الأذكياء جاءه رجل ثقة كان مع الذين يتراءون الهلال، وكان في القوم شباب ذووا نظر وبصر أقوياء، فجاء هذا الرجل الثقة العدل يشهد عند القاضي، قال: رأيت الهلال، فقال القاضي للآخرين: هل رأيتم الهلال؟ قالوا: ما رأيناه، والرجل معروف بأنه ثقة وصاحب دين، قال: رأيته قال: نعم، قال: فتشهد قال: أشهد، والآخرون يقولون: ما رأيناه، فالقاضي تحير كيف هؤلاء الشباب الذين بصرهم قوي ما رأوه، وهذا الرجل الكبير الشيخ يقول أنه رآه، ولا يستطيع أن يرد شهادته لأنه ثقة عدل، قال: هل تستطيع أن تريني إياه إذا ذهبت أنا وأنت إلى المكان الذي رأيته فيه؟ قال: نعم تفضل، فذهب القاضي والراعي إلى المكان، فقال: هل رأيته قال نعم هذا هو ويشير، القاضي جعل يحدد بصره ما يرى، ويقول: هل تراه يقول: نعم والقاضي ما يراه، فتنبه القاضي فمسح حاجب الرجل -الشعر الذي فوق العين مسحه- وقال له: هل ترى الهلال؟ قال: لا ما أراه، فصار يرى شعرة بيضاء.

فلابد من أمرين العدالة في الدين، والثاني قوة البصر الذي يكون به النظر {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

إذا رآه أهل بلد وثبت عندهم هل يلزم جميع الناس أن يصوموا أم ماذا؟ فيه خلاف يبلغ ستة أقوال للعلماء، ليس قولين بل ستة أقوال، لكن أشهرها التالي: الأول: أنه إذا ثبتت رؤيته في بلد إسلامي فإن جميع المسلمين في أقطار الدنيا عليهم أن يصوموا لأن قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ} الخطاب فيه للمسلمين، ومن المعلوم أنه ليس المراد كل واحد لأن هذا متعذر فيكون المراد إذا شهده من تثبت به الرؤية وجب على المسلمين كلهم.

وهذا القول فيه راحة في وقتنا الحاضر، لأننا نسمع أن في بعض البلاد تجد الناس في نفس البلد مختلفين، منهم من يتبع السعودية مثلاً، ومنهم من يتبع القضاء الذي في بلده، ومن يتردد فإذا قلنا بهذا القول: إذا ثبتت رؤيته بالبلاد الإسلامية لزم جميع الناس الصوم ما بقي إشكال، لكن هذا القول يشكل عليه أثر ونظر.

أما الأثر: فما رواه مسلم في صحيحه في قصة كريب مولى أم الفضل أنه قدم من الشام إلى المدينة ورأى الناس سيصومون غداً فأخبرهم أنه ثبت هلال الشهر في الشام قبل ثبوته في المدينة بليلة، ولكن أبى الحبر ابن عباس رضي الله عنهما أن يأخذ بهذه الشهادة، وأبقى الناس على صيامهم، وقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا أثر.

أما النظر: فهو أن الواقع أن مطالع الهلال تختلف بحيث يرى في جهة ولا يرى في الجهة الأخرى، كما أن مطالع الشمس تختلف فتطلع في جهة قبل أخرى، ويطول مكثها في الأفق أكثر من جهة أخرى، الآن نحن في زمن الشتاء والكرة الأرضية النصف الجنوبي منها في زمن الصيف، ولهذا إذا سمعت أخبار شمالي الكرة الأرضية وجنوبها؛ فإن الجنوب أقصى ما يكون في الحرارة، والشمال أقصى ما يكون في البرودة، وذلك أن الشمس تكون على الجنوبيين أطول مدة، وعلى الشماليين أقصر، أو بالعكس.

فكما أن مطالع الشمس تختلف بحسب الواقع فمطالع الهلال تختلف بحسب الواقع، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مطالع الهلال تختلف باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت المطالع وجب الصوم، وإن اختلفت لم يجب الصوم.

وهذا القول أقرب إلى الأثر وإلى النظر.

هناك قول ثانٍ: أن العبرة بما يحكم به ولي الأمر ما لم يخالف الشرع، إن خالف الشرع ليس عبرة، لكن إن كان محتملاً وحكم فإن كل من تحت ولايته ولو اختلفت المطالع يلزمهم الصوم، وهذا هو الذي عليه العمل اليوم فمثلاً: بلادنا -بلاد السعودية - جنوبها وشمالها تختلف فيه المطالع، ومع ذلك إذا حكم ولي الأمر بالصوم صام الجميع، هذا القول هو الذي عليه العمل الآن، ثم من الناس من يأخذ برؤية السعودية ومنهم من لا يأخذ حسب خلاف أهل العلم رحمهم الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>