للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم من حكم بالقوانين الوضعية]

السؤال

هل نقول إن بعض الدول العربية المسلمة تحكم بغير القرآن، فهل يرتكبون بذلك ذنباً ويدخلون في مذهب العلمانية؟

الجواب

الذي لا يحكم بالشريعة الإسلامية يعتبر كافراً؛ لأن من عطل الشريعة، ورضي بالقوانين الوضعية وحكمها في رقاب الناس وأعمال الناس ومعاملاتهم، فقد رضي بغير الشريعة، وقد تنقص الشريعة، وزعم أنها غير صالحة للحكم بين الناس، فالذين أوجدوا القوانين والحكم القانوني بآراء البشر؛ من قوانين فرنسية، أو إيطالية، أو أمريكية، أو إنجليزية، أو سوفيتية، أو غير ذلك، هؤلاء قد نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلا يكونون على الإسلام ولا حكاماً مسلمين؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧] وقال سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠] .

فالذين لم يرضوا بالشريعة وحكموا القوانين الوضعية، معناه: أنهم لم تطب نفوسهم بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ورأوا أن في القوانين التي ارتضوها لأنفسهم مصلحة، أو أنها أولى من الشريعة، أو أنها مساوية، أو أنها أصلح.

على كل حال هذا كفر وضلال.

لكن قد توقف بعض الناس في كفرهم وقالوا: إنهم يزعمون ويرون أنهم مخطئون، وأن الواجب تحكيم الشريعة، ولكنهم لا يستطيعون أن يحكموها؛ لما لديهم من عناصر وجيوش لا ترضى بذلك، وأناس مطاعون لا يرضون بذلك، فهم كالمضطرين إلى تحكيم القوانين، وهم لا يعتقدون أن حكمها جائز، ولا يرضون بعزل حكم الله، ولكن لأسباب اضطرتهم إلى ذلك.

وهذا محل نظر، والأصل عند أهل السنة والجماعة أن من حكَّم غير الشريعة، وهو يعلم أنه مخطئ، وأنه ظالم لنفسه، وأنه عاصٍ؛ فإنه لا يكفر بذلك، بل يقولون: هذا كفر دون كفر، كما قال ابن عباس، ومجاهد بن جبر التابعي الجليل، وطاوس بن كيسان وغيرهم، قالوا: إنما يكون كافراً وظالماً ظلماً أكبر.

قال شيخ الإسلام: إذا استحل ذلك، إذا رأى أنه يجوز له تحكيم غير الشريعة، أما إذا حكّم غير الشريعة حكم بالقانون، أو بالرشوة، أو بكذا وكذا، وهو يعلم أنه عاصٍ، وأنه مخطئ، وأنه خاطئ ضال، ولكن حمله الهوى أو طاعة الرؤساء على أن حكم بغير الشريعة؛ فهذا يكون عاصياً وظالماً وكافراً كفراً دون كفر، وظلماً دون ظلم، وفسقاً دون فسق، ولا يخرج بهذا من الشريعة ويكون مرتداً.

فهؤلاء الذين تولوا على أمور الناس الآن في غالب أمصار المسلمين، هل يقال فيهم: إنهم لم يستطيعوا حكم الشريعة؟ أو أنهم يعلمون أن الشريعة هي الحكم، وأنهم أخطئوا وعصوا بتحكيم القوانين، وأنهم يعلمون أنهم مخطئون وأنهم عاصون، ولكن تعمدوا ذلك لأسباب ولأهواء، فنقول في حقهم حينئذ: إنهم كفروا كفراً دون كفر، وظلموا ظلماً دون ظلم، وفسقوا فسقاً دون فسق؟ هذا محل نظر، والذي يظهر من تصرفاتهم وأحوالهم وميولهم إلى القوانين ورضاهم بها، الذي يظهر من أحوالهم عند الدراسة والتأمل يتبين أنهم راضون بها، وأنهم مطمئنون إليها، وأنهم يرونها أولى من تحكيم الشريعة، وأنسب للناس وأصلح لهم، أو أرفق بهم، هذا هو ظاهر حالهم، وهذا هو المتبادر من أحوالهم؛ لأنهم يحكمون بغير الشريعة، وهم مطمئنون ليس عندهم في ذلك تألم ولا تبرم لهذا الشيء، ولا تصريحاتهم بأنهم خاطئون وأنهم ظالمون، وسيعودون إلى حكم الشريعة، فالذي يظهر من حالهم هو أنهم راضون بحكم القوانين الوضعية، وأنهم غير راضين بحكم الشريعة، هذا ظاهر أحوالهم، والله أعلم بما في قلوبهم سبحانه وتعالى.

والخلاصة: أن نعلم أن من زعم أن القوانين الوضعية، سواء كانت فرنسية، أو إنجليزية، أو إيطالية، أو هولندية، أو أمريكية، أو سوفيتية، أو غير ذلك، من زعم أنه يجوز الحكم بها، ولا بأس بالحكم بها بين الناس، وإن زعم أن الشريعة أفضل؛ فهو كافر ضال بإجماع المسلمين، فإن قال: إنها مساوية للشريعة فهو أكفر وأكفر، وإن قال: إنها أفضل من الشريعة وأولى من الشريعة؛ فهو أكفر وأشد ضلالاً.

هذا ينبغي أن يعلم بإجماع المسلمين، حكم القوانين الوضعية كفر بالله وضلال إذا اعتقد صاحبها أنها جائزة، أو أنها مساوية للشريعة، أو أنها أفضل من الشريعة، فهو في هذه الأحوال الثلاث كافر ضال مطلقاً، أما إذا حكم بأي قانون أو لأي إنسان بحكم يخالف شرع الله، وهو يعلم أنه مخالف لشرع الله، ولكن فعل ذلك لهوىً، أو لرشوة، أو لأشياء أخرى من المقاصد الخبيثة؛ فهذا يكون ضالاً ويكون ظالماً ظلماً دون ظلم، وكافراً كفراً دون كفر، كما قال ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وغيرهم من الجمهور؛ لأنه لم يعتقد حل تحكيم غير الشريعة، وإن حكم بغير الشريعة لهوىً، كما قد يقع لبعض القضاة في المحاكم الإسلامية؛ فقد يضل عن السبيل، وقد يحكم بغير الشريعة لهوىً، إما لرشوة، وإما لقرابة، وإما لعداوة للمحكوم عليه؛ فيحكم عليه بغير الشريعة لهوىً أو لأسباب أخرى خاصة حكم بأسبابها، وهو يعلم أن حكمه يخالف شرع الله، ولكن حمله عليه هوىً وغرض فاسد، فهذا يكون عند أهل العلم ظالماً وعاصياً وفاسقاً، ولكن لا يكون كافراً كفراً أكبر؛ لأنه يعلم أنه عاصٍ، وأن حكم الله بخلاف قوله، وأنه خاطئ في ذلك ظالم فيه، فهو عند الجمهور ليس بكافر كفراً أكبر.

وهذه مسألة عظيمة يجب أن نحكمها جيداً.

<<  <  ج: ص:  >  >>