للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اغتنام الحياة بالأعمال الصالحة والتحلي بالصبر]

أيها الإخوة في الله: هذه الدار دار العمل دار المناصحة دار التعاون على البر والتقوى دار التواصي بالحق، وليست دار نعيم ولا دار خلد، ولكنها دار فناء وزوال، أنت منتقل طال عمرك أو قصر، فليست دارك، بل أنت منتقل إلى الدار الأخرى إما إلى الجنة وإما إلى النار، وأمامك حساب وجزاء، وجنة ونار، وكتب توزع، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وميزان هذا يرجح، ميزان هذا يخف {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:٦-٩] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:٧-٩] .

المقصود أن الله جل وعلا حذرنا من هذا المقام وهذا اللقاء، وذكرنا به جل وعلا، فأنت على خطر، قد تعطى كتابك بشمالك، وقد يخف ميزانك، فاحذر يا عبد الله! أعد العدة في هذه الدار، حاسب نفسك وجاهدها، تأمل أسباب النجاة واعمل بها، وتأمل أسباب الهلاك واحذرها، هكذا المؤمن، ولهذا قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:١-٣] إيمان صادق بالله ورسوله، وعملٌ صالح، والعمل الصالح: أداء فرائض الله وما شرع الله، وترك ما نهى الله عنه وما كره سبحانه، هذه الأعمال الصالحة، أن تعمل بطاعة ربك، وأن تستقيم على دينه، وأن تدع ما نهى الله عنه {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:٣] وأن يكون من أعمالك وإيمانك التواصي بالحق مع إخوانك، التواصي والتناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، لا تغفل، اغتنم الحياة، اغتنم الفرصة.

ولابد من الصبر أيضاً، هذه أمور لا بد فيها من الصبر، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [وجدنا خير عيشنا بالصبر] ، ويقول علي رضي الله عنه: [الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ثم يرفع صوته ويقول: ألا لا إيمان لمن لا صبر له] ، فلابد من الصبر، يقول الله سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٤٦] ، ويقول جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠] ، ويقول عز وجل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧] ، فلابد من الصبر على أداء فرائض الله، والصبر عن محارم الله، والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولابد من الصبر على بر الوالدين، وصلة الرحم، وغير هذا من وجوه الخير.

فلابد أن تصبر، ولابد أن تحاسب نفسك، هذه الدار دار الصبر دار التواصي بالحق والتواصي بالصبر دار التعاون على البر والتقوى، دار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الآخرة فهي دار جزاء، كل واحد يجزى بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:٧-٨] ، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:٤٠] .

فأنت -يا عبد الله- في حاجة إلى عملك الصالح، بل في ضرورة أن تحاسب نفسك، وجاهدها في هذه الدار قبل الموت، فإنك لا تدري متى يهجم الأجل، لا تدري متى تنقل إلى حفرتك كم من خازن بيت لم يعد! كم من ممسٍ لم يصبح! كم من مصبح لم يمس! فحاسب نفسك -يا عبد الله- وجاهدها لعلك تستقيم فكر كثيراً فيما أوجب الله عليك وفيما حرم عليك، وسارع إلى الخيرات، وابتعد عن جلساء السوء، واحذرهم، وعليك بصحبة الأخيار الذين يعينونك على طاعة الله ورسوله، واحذر صحبة الأشرار الذين يثبطونك عن الخير ويعينونك على معصية الله ورسوله، احذر أولئك الأشرار، وعليك بصحبة الأخيار، فقد جاء في الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك-أي: يعطيك- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، وأما نافخ الكير فإما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) ، فعليك بصحبة الأخيار (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) ويقول الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

فالمقصود أن صحبة الأخيار لها أثرها العظيم، وصحبة الأشرار لها خطرها العظيم، والله جل وعلا يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:٢] ، ويقول: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] ، ويقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:٧١] ، ويقول عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:١١٠] ، هذه صفات الأخيار، هذه صفات خيرية الأمة الإيمان الصادق بالله ورسوله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو داخلٌ في التواصي بالحق والصبر، والناس في حاجة إلى التواصي والتناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل واحد في حاجة إلى أخيه أن يعينه على الخير، فالتناصح مطلوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة.

قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) .

يقول جرير بن عبد الله البجلي أحد الصحابة رضي الله عنهم: [بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم] ، عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا أن يقيم الصلاة كما أمر الله، ويؤدي الزكاة كما أمر الله، وينصح لكل مسلم، هذا هو الواجب على الرجال والنساء، وعلى المرأة كذلك أن تنصح لله ولعباده، أن تقيم الصلاة كما أمر الله في بيتها في الوقت بطمأنينة وخشوع وعدم استعجال، وأن تقوم على أهل بيتها من بنات وأولاد وغيرهم كالرجل، والرجل والمرأة عليهم بالتعاون فيما يتعلق بالبيت وإصلاحه مع الأولاد، ومع الأيتام، ومع الخدم والخادمات، لابد من التعاون على البر والتقوى، ولابد من العناية، وهكذا الأمير، وهكذا شيخ القبيلة هذا واجبه الأمير يعتني برعيته، فيجتهد فيما يصلحها، ويتعاون مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في إصلاح الرعية، وهكذا شيخ القبيلة ورؤساء القبيلة، عليهم أن يتعاونوا في إصلاح قبيلتهم، في أمرهم بالمعروف، وفي نهيهم عن المنكر، وفي الأخذ على يد السفيه، هكذا يجب على المؤمنين التعاون والتواصي بالحق والتناصح.

<<  <  ج: ص:  >  >>