للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الاستشهاد بالحديث المرسل]

السؤال

كما عرف عن بعض المحدثين: أن الحديث إذا جاء من طريق مرسل بإسناد صحيح، وطريق متصل فيه ضعف ينجبر، فيكون الحديث بذلك حسناً، وقد أنكر بعض الإخوان هذه القاعدة فما رأيكم؟ أي: بعض الإخوة لم يعترف بهذه القاعدة وقال: هذه القاعدة غير مُسلَّم بها.

الشيخ: ما هي حجته؟ السائل: يقول أنه لا يجد دليلاً؛ لأنه في بعض ما نقل أن بعض أهل الحديث لا يعمل بهذه القاعدة.

الشيخ: لا بأس، البعض من أهل الحديث يعمل بها والبعض الآخر لا يعمل.

السائل: يقول: فما الدليل على صحة هذه القاعدة؟

الجواب

الدليل: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص:٣٥] والدليل: أن شهادة المرأتين بشهادة رجل، ولذلك قال الشاعر:

لا تحارب بناظريك فؤادي فضعيفان يغلبان قويا

السائل: هو يقول: إن المرسل سقط منه الراوي، ويقول: إن الضعيف الذي ينجبر متصل، فيقول: كيف يعضد متصل منقطعاً.

الشيخ: هذا من الجماعة الذي لا يجوز لهم أن يجتهدوا، لا يجوز له أن يصحح ويضعف، كيف -يا أخي- إذا اختلف المخرج النفس تطمئن إلى صحة الخبر.

أولاً: بخصوص هذا المثال كثير من كبار العلماء يذهبون إلى تصحيح الحديث المرسل لوحده، أظن أنكم تعرفون هذا، فالإمام مالك وأبو حنيفة وأحمد -في رواية عنه-؛ يحتجون بالحديث المرسل لوحده، وليس هناك ما يعضده من متصل.

ونحن لا نتبنى هذا، نحن نقول بما هو الراجح عند علماء الحديث، وبما يشهد الواقع العلمي: أن الحديث المرسل لا ينبغي أن يحتج به، ما دام أننا لا نعلم الواسطة بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، أهو الصحابي وحده أم صحابي وتابعي؟ ولذلك أنت فيما نقلته عن الرجل -إذا كان النقل دقيقاً- جاء في بعض كتب المصطلح كـ البيقونية مثلاً، يقول في تعريف المرسل:

ومرسل منه الصحابي سقط

هذا التعريف خطأ، لو كان هذا التعريف صحيحاً لكان كل مرسل صحيحاً؛ لأن قول (ما منه الصحابي سقط) سقوط الصحابي وجهالته لا يعل الحديث؛ سواء كان مسمىً باسم لا نعرفه في الصحابة، أو كان غير مسمىً، كأن يقول كما جاء في كثير من الأحاديث في مسند أحمد وغيره: حدثني رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون الحديث في هذه الحالة صحيحاً؛ لأن كل الصحابة عند أهل السنة عدول، فسواء علينا سمي أم لم يسم.

كذلك سواء علينا ذكر أو لم يذكر مطلقاً، وهذا هو الحديث المرسل عند البيقوني هذا، لكن هذا خطأ.

المرسل: هو قول التابعي قال رسول الله وهناك فرق كبير جداً بين تعريف البيقوني وبين هذا التعريف الذي تبناه أهل الحديث المحققون منهم، الحديث المرسل: هو قول الراوي أو التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو ما سقط منه اسم الصحابي، ما هو الفرق؟ قول التابعي: قال رسول الله يحتمل أن يكون الساقط هو الصحابي، وعلى هذا الاحتمال يكون الحديث صحيحاً، ويحتمل أن يكون الساقط صحابي وتابعي، ويحتمل أن يكون زائداً عليه تابع تابعي وهكذا، كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله -وهو من أهل التتبع والاستقراء- أنه وجد في بعض المراسيل سقط الصحابي والتابعي وتابع التابعي، أربعة أشخاص أو خمسة على التوالي، فحينئذٍ المرسل لا يصح أن يقال: هو سقوط الصحابي، وإنما قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفترض حينئذٍ أن الساقط هو الصحابي، لأنه وإن كان محتملاً، لكن المحتمل أيضاً أن يكون السقط أكثر وأكثر الشاهد من هذا كله: بعض العلماء ممن سمينا آنفاً ذهبوا إلى تصحيح الحديث المرسل ونحن وإن كنا لسنا معهم في هذا، وقد قال بعض أهل العلم كلاماً قيماً، قال: لو جاز لنا أن نحتج بقول التابعي قال رسول الله، من باب حسن الظن به، أنه لو كان بينه وبين الرسول غير الصحابي كان ذكره -من باب حسن الظن- يقول: إذا استرسلنا مع هذا الحسن للظن لوصل إلى زماننا مثلاً لو أن فلاناً في القرن الثالث أو الرابع قال: قال رسول الله، فمن باب حسن الظن- نقول: لو كان هذا العالم لم يثبت الحديث عنده بالطريقة العلمية فلن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك نبطل أهم وسيلة عند المسلمين تفردوا بها دون العالمين جميعاً لمعرفة رواية الصحيح، حينئذٍ لا قيمة للإسلام إذا ما اعتمدنا على قول الراوي، سواءً كان تابعياً أو تابع تابعي أو ما دون ذلك من باب حسن الظن بالناس، فحينما يأتي الحديث المرسل بسند صحيح إلى مرسله، نحن نتوقف في هذا ولا نقبله؛ لأن هناك احتمالاً ما ذكرناه آنفاً، لكن عندما يأتي الحديث بإسناد من طريق غير الطريق السابقة، غير طريق المرسل، وهذا السند وحده ضعيف، لكن ضعيف وضعيف يتعاضدان، وهذا أمر مشاهد.

وكما تعرفون في وصايا بعض الحكماء لأولادهم لما حضره الموت، وكان له عشرة من الولد، قال لكل واحد منهم: هات عصا، فلما كثرت جعلها حزمة وأمر كل واحد أن يكسرها، فما استطاع أحد منهم أن يكسرها، فضرب لهم مثلاً بأنه هكذا إن كنتم جميعاً متفقين فلا يستطيع أحد أن يعتدي عليكم، أما إذا كان كل واحد منفرداً لوحده فمن الممكن كسره والاعتداء عليه، كسر قضيب واحد سهل، لكن إذا ضُمَّ إليه مثله يأخذ قوة، وكذلك إذا ضُمَّ إليه ثالث ورابع وخامس يزداد قوة.

نحن نقول لطالب العلم هذا: هل تعتقد بأن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق؟ ما تظنه يقول أو ماذا تعلم؟ السائل: يقول: إذا كان الضعف في راوٍ واجتمعت الطرق يصح الحديث.

الشيخ: كيف ذلك؟ السائل: إذا كان في السند راوٍ ضعيف وتعددت الطرق، لكن الرواية التي فيها انقطاع كيف يستشهد بها؟ الشيخ: هل يقول بأن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق؟ لا أسأله التفصيل.

السائل: نعم هو يقول بهذا.

الشيخ: لماذا يقول، لا أقول: بماذا يقول؟ وإنما أقول: لماذا يقول ذلك؟ السائل: يقول: لي سلف من قبل من المحدثين يقولون بهذا.

الشيخ: صاحبك هذا قناعته من أين جاءت؟ السائل: من التعاضد.

الشيخ: أي أنه لاحظ معنى التعاضد هنا يأتيه سؤال ثانٍ: وهو أن حديثاً جاء من طريقين موصولين ليس فيهما انقطاع، لكنّ كليهما ضعيف يتقوى عنده أم يتطلب ثالثاً ورابعاً؟ السائل: يتقوى.

الشيخ: المعنى الذي لاحظه هو الذي يلاحظه من يقوي الحديث المرسل بالحديث المتصل، فإن كون هذا ضعيفاً للإرسال، وكون الآخر ضعيفاً لسوء الحفظ، كلاهما يشتركان في الضعف، فلماذا يقول: بأن إسنادين علتهما ضعف الحفظ فهذا يقوي هذا، ولا يقول بأن ذاك المرسل لا يتقوى بمثل ما تقوى به الضعيف الآخر؟ السائل: لأنه يقول: هنا عرفنا العلة في السند هذا وهو ضعف الراوي الذي ينجبر ضعفه، أما الثاني فلم نعرف التابعي، وربما يكون الضعف فيه شديد جداً بحيث أنه لا يعتضد بهذا، فيقول مثلاً: ربما بين الصحابي والتابعي راوٍ شديد الضعف لا ينجبر بالطريق ذاك، فكيف تجيرون برجل مبهم لا يعرف؟ الشيخ: ما هو الذي يلقى في النفس، أهو شديد الضعف أم ليس شديد الضعف؟ السائل: بالنسبة له يا شيخ؟! الشيخ: بالنسبة للمُرْسِل.

السائل: هو بالنسبة له يقول: الله أعلم، ربما يكون كذا أو كذا الشيخ: يقول: هذا الضعيف الذي قوينا به الضعيف الآخر يمكن أن يكون وَهِم وهماً لا يتقوى، وباب الإنكار واسع، ولكن البحث العلمي يوحي بأن الإنسان يأخذ ما يغلب على الظن، الآن نعود نحن إلى العلماء الذين احتجوا بالحديث المرسل، ماذا كان ملحظهم؟ السائل: شروطهم.

الشيخ: لا، كان ملحظهم أن هؤلاء -أي: العلماء الذين صححوا المرسل- لو غلب عليهم احتمال أن يكون المرسل أخذه من شديد الضعف ما صححوه، لكن هم غلب على بالهم وعلى خاطرهم أنه لو كانت هذه الواسطة التي نحن افترضناها شديدة الضعف -حاشاهم- ما كانوا ليرووا الحديث وينسبوه للرسول عليه السلام، فالذي يلقى في النفس في هذه الحالة -مع الاعتراف أن احتمال ضعف الراوي ضعفاً شديداً احتمال قائم- لكن هناك احتمال يقابله وهو الأكثر طمأنينة للنفس وأنه ليس شديد الضعف، ولذلك صحح من صحح الحديث المرسل، فنحن على الأقل نعتبره شاهداً فقط وليس محتجاً به.