للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث عبد الله بن عمر في إثبات رؤية الهلال]

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان، وهذا الحديث في الواقع من الأحاديث الصحيحة، وقد صححه من ذكر المصنف وهم الحاكم وابن حبان، ولكن لعل الأولى كان من الناحية الحديثية والاصطلاحية تقديم ابن حبان في الذكر على الحاكم؛ لأنه قال: رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان، فلو عكس وقال: رواه أبو داود، وصححه ابن حبان والحاكم لكان أقرب إلى الاصطلاح الحديثي من ناحيتين اثنتين: الناحية الأولى: أن ابن حبان أعلى طبقة، أي أقدم من الحاكم من حيث العصر.

والناحية الأخرى: أن تصحيح ابن حبان على ما فيه من تساهل -ذكرناه في الدرس السابق- ومع ذلك فلا يزال تصحيحه أنظف من تصحيح الحاكم؛ لأن الحاكم يقال في تصحيحه ما قلناه بالأمس في تصحيح ابن حبان وزيادة في آخر: وهو أن الحاكم لا يصحح الأحاديث التي في أسانيدها من لا يعرف فقط، بل إنه يتعدى ذلك إلى أنه يصحح بعض الأحاديث وفي أسانيدها من هو متهم بالكذب والوضع في الحديث على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مما لا يقع فيه ابن حبان، ولذلك من المقطوع به عند أهل العلم بالحديث أن الحاكم أشد تساهلاً في التصحيح من ابن حبان، وأن صحيح ابن حبان أنظف من صحيح مستدرك الحاكم أولاً: لما ذكرنا من علو ابن حبان في الطبقة.

ثانياً: لأن تساهله في التصحيح أقل من تساهل الحاكم.

فقد كان الأولى أن يقدم ابن حبان في الذكر على الحاكم فيقول: رواه أبو داود؛ وصححه ابن حبان والحاكم.

وهذا الحديث في الواقع إسناده صحيح، وفيه -كما هو واضح- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت هلال رمضان برؤية رجل واحد ألا وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فكان في هذا الحديث دلالة إلى المذهب الذي يقتصر في إثبات هلال رمضان على شاهد واحد، والمسألة خلافية بين الفقهاء فمنهم من يقول بما دل عليه هذا الحديث، ومنهم من يوجب أن يشهد اثنان فصاعداً، ومنهم من لا يقتصر بشاهدين اثنين، وإنما يوجب جماعة تحصل القناعة بصدقهم في رؤيتهم للهلال.

ونحن نقول: إن هذا الحديث يعتبر أصلاً في الاكتفاء بالشاهد الواحد لإثبات هلال رمضان، ولكن الناس يختلفون من حيث التساهل في الإخبار بما رأوا، والتشدد فيما رأوا، وحتى في الصدق، فهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، فالأمر حينذاك يعود إلى القاضي الشرعي الذي أُنيط به إثبات هلال رمضان، فإذا جاءه شاهد وهو يعرفه جيداً، ويعلم أنه صادق، وأنه كيِّس فطن، وليس من الناس المغفلين الذين قد يقول أحدهم أنه رأى الهلال والواقع أنه رأى شعرة من حاجبه بينه وبين الأفق فتوهمها هلالاً، فإذا جاء إلى القاضي رجل مسلم يعرف صدقه ويعرف نباهته ويقظته؛ فيجوز له شرعاً أن يثبت هلال رمضان بمجرد شهادة هذا المسلم الواعي.

أما إذا لم يطمئن لخبره فتشدد وأراد شاهداً ثانياً أو ثالثاً، على حسب الأشخاص الذين يأتون ويشهدون عنده؛ فلا مانع من ذلك حتى لا يشتبه الأمر ويثبت هلال رمضان والواقع أنه لم يثبت؛ لأنه لم يأت عنده شاهد يثق بشهادته، ونحن نعلم اليوم أن هناك عند القضاة -كما كان الأمر منذ القديم- جماعة يُعرفون بالمزكين، يزكون الناس أتعرف فلاناً؟ إي والله أعرفه.

وماذا عرفت عنه؟ معرفة سطحية جداً، فلا شك أن القاضي الحريص على إثبات شهر الصيام بطريقة مرضية مطمئنة لا يطمع بمجرد أن يقول أحدهم: فلان هذا أعرفه، رجل صادق.

إلا أن يتمكن هو من معرفته بطريقته الخاصة التي يقتنع بها هو.

خلاصة القول: إن هذا الحديث يدل على أن الأصل في إثبات هلال رمضان يكفي فيه الشاهد الواحد، ولكن ينبغي أن يكون هذا الشاهد معروفاً عند الوالي المسئول الذي يعلم إثبات هلال رمضان اعتماداً منه على هذا الشاهد الواحد.

وقد سمعتم أن الذي رأى الهلال في هذا الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو صحابي ابن صحابي، وهو معروف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمام المعرفة؛ فلا جرم أنه عليه الصلاة والسلام اعتمد على خبره برؤيته لهلال رمضان، وأثبت بناءً عليه شهر الصيام، لكن ليس كذلك هؤلاء الشهود الذين يشهدون في هذه الأيام؛ لا سيما إذا أردنا أن نطبق شروط المسلمين العدول المنصوص عليها في كتب الفقه، وبعضها بلا شك صواب لا ريب فيه، فإننا لا نستطيع اليوم أن نثبت هلال رمضان إلا بواسطة أفراد قليلين جداً، ولنذكر على ذلك مثلاً نضربه ونحن -كما يقال- نرمي بذلك عصفورين بحجر واحد لقد جاء في كتب الأحناف التنصيص بأن الذي يحلق لحيته لا تقبل شهادته، فهل الحُكام اليوم إذا جاءهم مخبر بإثبات هلال رمضان وهو حليق يقبلون شهادته أم لا يقبلون؟ يقبلون، بينما المنصوص عليه أن هذا لا يقبل شهادته؛ والسبب في ذلك أن حلق اللحية معصية، وهذه المعصية باتفاق الأئمة الأربعة، لا فرق بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فكلهم متفقون على أن حلق اللحية معصية؛ لأن في ذلك ارتكاباً لمخالفات عديدة ثابتة في السنة، يكفي في ذلك مثلاً قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حفوا الشوارب وأعفوا اللحى، وخالفوا اليهود والنصارى) اليهود والنصارى يحلقون لحاهم فأنتم خالفوهم، الذين يقتلون المسلمين اليوم.

ولا مؤاخذة من الحاضرين المبتلين بهذه المعصية، فإن الدين النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم) فنحن من عامة المسلمين يجب على أحدنا أن ينصح الآخرين؛ لأن الدين النصيحة كما سمعتم، لذلك فحلق اللحية معصية باتفاق الأئمة الأربعة، ونص الحنفية فيما علمت وقد يكون آخرون نصوا على ذلك: بأن من حلق لحيته لا تقبل شهادته.

أما الآن فقد أصبح حلق اللحية أمراً عادياً، وعلى العكس من ذلك أصبح الذي يوفر لحيته موضع نظر غريب جداً من جماهير الناس وكأنه متوحش، وكأنه -كما يقولون اليوم- رجعي، ولا يحسون أبداً أن إعفاء اللحية هو من أمور الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذلك كان الأنبياء جميعاً وبخاصة آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام -كانوا ذوي لحى، ففي القرآن الكريم: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ} [طه:٩٤] إلى آخر الآية، فهارون عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء كانوا محافظين على هذه الفطرة، فجماهير المسلمين اليوم بسبب غلبة العادات الغربية، حينما غزا الأوروبيون بلاد الإسلام بأبدانهم وبعاداتهم؛ انتشرت هذه العادات الفاجرة الفاسقة، وطبع بها جماهير المسلمين إلا القليل منهم ممن هداهم الله عز وجل، يعرفون أن نبيهم وأن أسوتهم الوحيدة كان ذا لحية جميلة، وأن هذا النبي الكريم أمرهم بأن يعفوا لحاهم ولا يتشبهوا بالكفار.

لما أصبح أكثر الناس اليوم مبتلين بحلق اللحية رأى هؤلاء الحكام أن يتساهلوا في الموضوع، وأن يقبلوا شهادة حليق اللحية، وأريد من هذا المثال أن أقول: إن هناك تساهلاً في تعديل الشهود، ولذلك فإذا تثبت الحاكم ولم يقتصر في إثبات هلال رمضان على شهادة مسلم واحد فلا مانع من ذلك؛ لأن هذا المسلم سوف لا يكون مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب من حيث إيمانه وصدقه ويقظته ونباهته من جهة، ومن جهة أخرى: فسوف لا يكون هذا الشاهد في الغالب معروفاً عند الحاكم كما كان عبد الله بن عمر معروفاً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

خلاصة القول: يجب على القاضي الذي يريد إثبات هلال رمضان أن يتثبت في إثبات هذا الهلال، فإن جاءه رجل يعرفه معرفة جيدة وهو مسلم عدل أثبته بشهادة هذا المسلم الواحد، كما يدل عليه هذا الحديث الصحيح.