للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نسخ الاجتهاد للأحكام الثابتة]

السؤال

إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه، فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام؟ ومتى يكون ذلك؟

الجواب

مما هو مجمع عليه بين علماء المسلمين: أن النسخ لا يمكن أن يقع بعد استقرار الأحكام الشرعية، وذلك لا يظهر يقيناً إلا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فأي حكمٍ انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وقد استقر ذلك الحكم على وجه، فلا يمكن أن يُنسخ هذا الحكم بعده عليه الصلاة والسلام بوجه من الوجوه، ولعلنا نذكر جميعاً أن معنى النسخ هو: إبطال الحكم وإلغاؤه من أصله، وليس من هذا القبيل ما قد يشير إليه السائل في قوله: فهل يصح في الاجتهاد تغيير ما لم ينسخه الشارع من أحكام؟ ومتى يكون ذلك؟ لا يمكن أن يكون نسخ حكم تقرر أنه حكم ثابت -كما ذكرنا- واستمر ذلك إلى آخر حياته عليه السلام، لا يمكن لمثل هذا الحكم أن ينسخ بأي وجه من الوجوه، لكن الذي يمكن أن يقع في ظروف وملابسات خاصة، هو توقيف حكم من الأحكام الثابتة غير المنسوخة إلى أمد معين؛ بسبب ظروف أحاطت بالناس فأوجبت تأخير ذلك الحكم إلى زمن معين.

مثلاً: جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطلاق الثلاث، الذي كان في عهد الرسول عليه السلام يعتبر طلقة واحدة، وكذلك في عهد أبي بكر الصديق، وكذلك في شطر من خلافة عمر نفسه، جعل عمر رضي الله عنه هذا الطلاق ثلاثاً، فمن طلق ثلاثاً في عدةٍ واحدة اعتبره نافذاً ثلاثاً، على خلاف ما كان الأمر عليه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي عهد أبي بكر، وفي شطر من خلافة عمر نفسه، كما ذكرنا.

يذهب بعض الفقهاء المتأخرين الذين رأوا جمهور علماء المسلمين تبنوا هذا الحكم وكأنه حكم لازم وثابت إلى يوم الدين، يرون بأن تنفيذ عمر للطلاق بلفظ الثلاث (ثلاثاً) لا يمكن أن يكون إلا ولديه ناسخ، يقولون هذا لأنهم لا يجدون في نصوص السنة فضلاً عن نصوص الكتاب ما يمكنهم أن يدعموا به أن ما فعله عمر هو حكم ثابتٌ قاله الرسول عليه السلام، لا يجدون إلا أن يقولوا: إن عمر ما صار إلى هذا إلا ولديه نصٌ ناسخ للحكم السابق، وهو أن الطلاق بلفظ الثلاث يعتبر طلقة، ولعل الحاضرين جميعاً يفقهون ما معنى طلاق بلفظ الثلاث، وأنه يعتبر ثلاثاً في اجتهاد عمر، ولم يكن كذلك في زمن الرسول عليه السلام، وأبي بكر، وشطر من خلافة عمر، كأني أرى من الضروري أن أقف قليلاً هنا لأبين لكم الفرق؛ لأنها مما يبتلى به كثير من الناس اليوم الأصل في الطلاق الشرعي: أن الذي يريد أن يطلق زوجته طلاقاً شرعياً؛ يشترط في هذا الطلاق أن تتوفر فيه شروط عديدة ولست الآن في صددها، وإنما أذكر هذا الشرط الواحد، وهو ألا يجمع الطلقات الثلاث التي قال الله فيها: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:٢٢٩] الطلاق مرتان، في كل مرة إمساك بمعروف، أي: بعد ما طلقت، أو تسريح بإحسان، فإن طلقها في الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} هذا من شروط الطلاق الشرعي؛ أن يطلق ثم يفكر هل يمسكها ويرجعها إلى نفسه، أم يخلي سبيلها والله يعوضه خيراً منها ويعوضها خيراً منه؟ جعل الله عز وجل له ساحة تفكير وهي العدة، فالمرأة بعد أن طلقها زوجها فعدتها ثلاثة قروء، أي: ثلاثة أشهر وعشرة أيام تقريباً، فيفكر الرجل في هذه المدة يعيدها أو لا يعيدها، فإذا انتهت العدة أصبحت المرأة حرة وليس له سبيل إلى إرجاعها، وقبل العدة يستطيع أن يعيدها إليه بدون نكاح، ولكن تحسب عليه طلقة.