للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اهتمام الدعوة السلفية بتبيين التوحيد الصحيح وتفصيل أنواعه]

الدعوة السلفية تهتم بتبيين التوحيد الصحيح الذي يكون الناس أحوج ما يكونون إليه، وهو ما استخلصه العلماء المحققون من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، من أن هناك ثلاثة أنواع للتوحيد، التوحيد السابق واصطلحوا عليه أنه توحيد الربوبية وهو: الإيمان بأن لهذا الكون خالقاً رازقاً متصفاً بصفات الكمال.

والنوع الثاني للتوحيد: هو توحيد الألوهية.

والنوع الثالث: هو توحيد الصفات.

صحيح أن هذه أسماء اصطلح عليها من هؤلاء الأئمة الأعلام، ولكن مدلولها وحقيقتها موجود في ثنايا الكتاب والسنة، وإنما هؤلاء وضحوها وميزوها واصطلحوا عليها لتتضح الأمور وتتبين الحقائق.

أما توحيد الربوبية فقد شرحنا المراد به، أما توحيد الألوهية فهو أيضاً بصورة إجمالية أن يخص المسلم أصناف العبادة كلها لله عز وجل، هذا الخالق المدبر الذي آمن به، وهذا في الحقيقة أمر طبيعي، فإذا كان الله هو المدبر الخالق الرازق إلخ، فلماذا يدعون غيره؟ ولماذا يعبدون سواه؟ يعبدون المخلوقين والمحتاجين، يعبدون الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، كما يقول الشاعر:

ومن قصد البحر استقل السواقيا

هذا العبد الضعيف العاجز الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا بعثاً ولا حياة ولا نشوراً، كيف تدعوه وتترك ربك الذي بيده كل شيء، الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، هل هو قاسٍ عليك؟ هل هو لا يستجيب دعائك؟ هل هو بعيد؟ هل هو ظالم حتى تخاف منه وتلجأ إلى سواه؟ إنه رحيم بعباده، رءوف بهم، يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، يقبل التوبة عن عباده، إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، إنه الذي يفرح بتوبة التائب أشد من فرح الإنسان الذي كان في سفر وضلت راحلته ثم وجدها وعليها طعامه وشرابه بعدما يئس وأيقن بالهلاك.

فإذاً: هذا الإله العظيم الحكيم الرحيم لِمَ تتركه وتلجأ إلى غيره من هؤلاء الآلهة الضعفاء العجزة الذين لا يملكون لأنفسهم حياة ولا ضراً ولا نفعاً؟! فلذلك هذا التوحيد أمر فطري ضروري طبيعي.

ويعد توحيد الألوهية من أخص خصائص التوحيد، وهو من أهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في الحقيقة معنى قولنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فكلمة (لا إله إلا الله) هي التي تدخل الإنسان في الإسلام، وهي الكلمة الطيبة، وهي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة) فإذاً: علق دخول الجنة على من يقول هذه الكلمة مؤمناً بها مخلصاً من قلبه.

ما معنى هذه الكلمة؟ هل هي ألفاظ تقال باللسان هكذا دون فقه ولا اعتقاد ولا تطبيق؟ ليس كذلك، إن الأمور بحقائقها، هذه الكلمة معناها: الإله المعبود، أله يأله أي: عُبِد ويُعْبَد، الإله: المعبود، فلا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله.

فإذاً: من ألصق معاني (لا إله إلا الله) توجيه وتخصيص العبادة كلها بأنواعها المختلفة لله عز وجل.

كثير من المسلمين يجهلون العبادة، فيظنون أن معنى (لا إله إلا الله) آمنا بالله مع تخصيص العبادة لله، ونحن أيضاً نؤمن بذلك فلا نخصص صلاة ولا نسجد لأحد إلا لله، وهذا قصور في الفهم، فإنهم يجهلون أن العبادة معنى أشمل وأوسع من ذلك، إن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه، العبادة تشمل أنواع التعظيم التي يجب أن تخص بالخالق الحكيم، إنها تشمل الدعاء، والنذر، والذبح، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والخوف، والخشية، والاستغاثة، والرجاء، والمحبة، كل هذه الأنواع من العبادات، وهؤلاء لجهلهم يظنونها مقصورة على الصلاة والحج مثلاً.

فيدل على ذلك نصوص كثيرة أيضاً لا نحصيها وإنما نذكر بعض الأمثلة، مثلاً: الدعاء والاستعانة يقول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] وتقديم المفعول هنا يراد به التخصيص، (إياك نعبد) أي: لا نعبد غيرك، (وإياك نستعين) أي لا نستعين بسواك، وهذا الفرق بين قولنا: إياك نعبد، وبين قولنا: نعبدك، لم يقل: نعبدك؛ لاحتمال أن يراد بها وأن تشمل نعبدك، ولا مانع من أن نعبد غيرك، فقدم المفعول لهذا التخصيص.

كذلك قوله عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠] فقابل بين (ادعوني) و (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) مبيناً أن الدعاء هو عبادة، ويوضح هذا تماماً قوله صلى الله عليه وسلم الصادق: (الدعاء هو العبادة) وهكذا الذبح في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢] ونسكي أي: ذبحي، ونصوص كثيرة تشمل الخوف والرجاء {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:٤٠] {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٥] {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٢٣] وما أشبه ذلك من النصوص الكريمة.

هذا النوع الثاني من أنواع التوحيد الذي يجهله المسلمون وتركز عليه الدعوة السلفية؛ لأن من أخطأ فيه؛ أو جهله؛ أو اعتقد خلافه؛ فهو مشرك ويحكم عليه بالخلود في النار، إلا إذا كان لم تبلغه هذه الدعوة فأمره إلى الله فيعذره الله، ويوضح مصيره الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه يبعث إليه يوم القيامة رسول إلى آخر الحديث المعروف.

النوع الثالث من أنواع التوحيد الذي يجهله المسلمون ويخالفون مضمونه، ويشركون فيه بالله هو توحيد الصفات، وهو: اعتقاد أن أحداً يشارك الله في صفة من صفاته، الله من صفاته: يعلم الغيب، فحينما يعتقد إنسان أن بشراً من البشر يعلم الغيب كما يعتقد الصوفية أن شيوخهم يكاشفون فيعلمون ما في نفسك، ويطلعون على أحوالك ولو كنت في مشرق الأرض وهم في مغربها، فهذا لا شك أنه شك في الصفات، وكذلك حينما يعتقدون في بعض مشايخهم أنهم يقدرن على كل شيء، وأنهم يقولون للشيء: كن فيكون كما ورد في بعض كتبهم، وحينما يعتقدون صفات أخرى هي من أخص خصائص الله عز وجل في أوليائهم أو في مشايخهم أو الأنبياء والرسل، فإنما هم قد أشركوا بالله عز وجل.

ومع الأسف فقد انتشر هذا في كلام المتأخرين كثيراً فتجد الشعراء منهم الذين يسمون المداح للنبي صلى الله عليه وسلم الذين كتبوا قصائد في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ويهتم الناس بتلاوتها في الموالد والاحتفالات الدينية، هذه تكثر فيها هذه الصفات، وهذه الأمور التي لا تجوز إلا لله نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى مشايخهم وأوليائهم.

والرسول عليه الصلاة والسلام قد حذر كثيراً من هذا، وقد أمر بعدم المبالغة في مدحه عليه الصلاة والسلام خشية من الوقوع في هذا الانحراف الخطير، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وحينما جاء بعض الناس وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا قال لهم عليه الصلاة والسلام: (قولوا بقولكم هذا أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان) فكلمة (سيدنا وابن سيدنا) الرسول صلى الله عليه وسلم وجد فيها شططاً؛ لأن ابن سيدنا معناه: أن عبد الله والد رسول الله هو سيد لهم، وأنه كان مشركاً كما في الأحاديث المعروفة، فهذا من الشطط وقد حذرهم منه.

وحينما سمع بعض الجواري والأولاد ينشدون:

وفينا نبي يعلم ما في غد.

نهاهم عن ذلك أيضاً وقال: لا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل.

فمع هذا التنبيه وهذا التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم خالفه الناس صراحة وقال قائلهم البوصيري مثلاً:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

معنى البيت: لا تقل: إن محمداً ابن الله وقل ما شئت فيه من الأقوال، وهذا واضحٌ ضلاله وواضحٌ انحرافه وشططه لكل ذي لب.

فتوحيد الصفات من أخطر أنواع التوحيد التي جهلها المسلمون وخالفوها، ومعروف أن مسألة التوحيد هي الفيصل بين الإسلام والكفر كما قلنا، فلو كان إنسان متعبداً أعظم درجات التعبد، يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق، ويزكي ويقوم بأنواع النوافل المختلفة، ويتقرب إلى الله بشتى القربات، ويصل الأرحام إلى آخره، لو أشرك في عمره كله مرة واحدة كأن يكون استغاث بغير الله، أو قال كلمة فيها وصف أحد المخلوقات بصفة لله، فإن كل عمله باطل، وإنه خالد مخلد في النار إذا لم يتب منه، قال الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] .

فإذاً: المسألة خطيرة وخطيرة جداً، ولذلك يوليها السلفيون الاهتمام الكبير.

ومن العجب! أن باقي المشايخ والعلماء لا يدندنون حولها، بل يخاصموننا فيها فيقولون: ما فيها شيء، المسألة تتعلق بالنية -مثلاً- نية هذا الإنسان إنما يريد بذلك وجه الله، أو يريد التقرب والتحبب وتعظيم هذا النبي وهؤلاء الأولياء، مع أنهم يعلمون أن النية لا تشفع للعمل مهما كانت صالحة، فلابد أن يكون العمل صالحاً والنية صالحة مصداقاً لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:١١٠] (لا يشرك) أي: لتكن نيته صالحة، (فليعمل عملاً صالحاً) أي: موافقاً للسنة، كما فسرها بذلك الأئمة والمفسرون مثل ابن كثير وغيره.

فإذاً: يجب الاهتمام بمسألة التوحيد بأنواعه الثلاثة -وخاصة النوعين الأخيرين- اهتماماً بالغاً لإنقاذ الناس من الهاوية ومن الضلال.