للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رأي الشيخ في أصول قررها أحد الكتاب الإسلاميين وتعليقه عليها]

السؤال

ما رأيكم في هذه الأصول التي قررها كاتب إسلاميٌ كبير: آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من اختلافٍ بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧] ؟

الجواب

هذا كلام سليم وجميل، لولا أن فيه غموضاً في ناحية واحدة، فلا بد من توضيحها وبيانها، وهي قوله في آخر بيانه: وإنما يسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو كما قال نقول: نعم.

ولكن آيات الصفات هذه وأحاديث الصفات حينما لم يتأولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعطلها، يرد سؤال هنا: هل فهمها، أم لم يفهمها؟ إن قيل: فهمها، إذاً لا بد لنا من فهمها اقتداءً بالنبي عليه السلام؛ لأن الكاتب يقول: يسعنا ما وسع الرسول عليه الصلاة والسلام.

وهذا كلام حق.

وإن قيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فهمها ولا بحث عنها، فهذا صدم وضرب لأعز شيء في الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أنه قد أنزل القرآن عليه، وكلف ببيانه للناس، فإذا قيل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفهم هذه الآيات، فهو بطبيعة الحال لم يبينها للناس؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والقول بأنه لم يبين ذلك منافٍ لعديدٍ من النصوص، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:٦٧] إلى آخر الآية، وإن قيل: لا.

حاشا لله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فهم هذه الآيات كما فهم القرآن كله، تجاوباً منه مع مثل قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:٨٢] فحينئذٍ لا بد للخلاص من التأويل والتعطيل، من الفهم لنصوص آيات الصفات وأحاديث الصفات بدون تعطيل وبدون تشكيك.

الأصل في هذا أن في مسألة آيات الصفات وأحاديث الصفات مذاهب ثلاثة: مذهب السلف، وهو فهم النصوص كما جاءت بدون تشبيه وبدون تأويل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] فقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] لا نقول: الله أعلم بمراده.

المراد مفهوم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] ، لكن في الوقت الذي نفهم هاتين الصفتين بالأسلوب العربي لا نشبه ربنا عز وجل بشيءٍ من عباده، جمعاً بين التنزيه والإثبات المذكورين في هذه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] هذا مذهب السلف.

مذهب الخلف: هو المذهب الثاني، وهو تأويل آيات الصفات -زعموا- خشية التشبيه، فوقعوا -مع الأسف الشديد- في التعطيل، أي: أنكروا كثيراً من الصفات، والمذاهب هنا منها المؤولة المتعمقة في التأويل، حتى لتكاد تنكر وجود الله بسبب إنكارهم لصفات الله، ولا شك أن بعض الفلاسفة الإسلاميين وقعوا في هذا الجحد المطلق، يقولون: لا نصفه بأنه حي، ولا نقول: إنه حي أو ليس بحي، لماذا؟ لأنه لو قلت: إن الله حي، فأنا متكلم وأنا حي وأنت حي، وهذا تشبيه، ولا نقول: ليس بحي؛ لأننا حكمنا عليه بالعدم، وهكذا وقعوا في (حيص بيص) وفي حيرة، أدت بهم في الواقع إلى الجحد المطلق.

لذلك أحسن التعبير عن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ثم تبعه بعد ذلك ابن القيم فقال: المعطل يعبد عدماً.

لا شك، لكن قلت: إن المؤولة يتفاوتون في التأويل، فمنهم من أغرق في التأويل حتى وصل به الأمر إلى الجحد المطلق، ومنهم دون ذلك، ومنهم أقل وأقل، ومن هؤلاء الأشاعرة والماتريدية مع الأسف؛ فهؤلاء -والكلام يهمنا بالنسبة إليهم؛ لأن جماهير المسلمين اليوم من أهل السنة يتمذهبون بمذهب هذين المذهبين- فهؤلاء -مثلاً- في الآية السابقة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] لا يتأولون السمع والبصر، لا يقولون كما تقول المعتزلة (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: عالم، فـ المعتزلة أشد إغراقاً في تعطيل آيات الصفات بطريق التأويل، فهم لا يقولون: نصف ربنا بأن له سمعاً وله بصراً، لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] ، والمعتزلة يقولون: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] أي: العليم.

فنقول: الله وصف نفسه في غير ما آية بأنه عليم، فكيف تعطلون هذه الآية أو هاتين الصفتين؟ الماتريدية والأشاعرة سلكوا هنا على الجادة، قالوا: نقول كما قال ربنا: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] لكن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] بينما أولوا آيات أخرى وأحاديث أخرى في صفات، لماذا؟ قالوا: نخشى من التشبيه، أي: إما أن تطردوا هذه الخشية فيصل بكم الأمر إلى الجحد المطلق، وإما أن تقفوا موقف السلف عند هذه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] هذان مذهبان: مذهب السلف: الفهم، وما يجب على ذلك من القواعد العربية مع التنزيه، ومذهب الخلف: التأويل خشية التشبيه، فوقعوا في كثيرٍ من التعطيل.

ووجدت طائفة ثالثة، وهم الذين -زعموا- يريدون أن يقفوا وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، وهؤلاء يسمون بـ المفوضة، هم لا يفسرون تفسير السلف، ولا يؤولون تأويل الخلف، فإذا قيل لهم: ما معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ؟ قالوا: الله أعلم بمراده {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:٢٢] قالوا: الله أعلم بمراده وهكذا كل آيات الصفات لسان حالهم يقول: لا نعلم، لا نعلم، لماذا لا تعلمون؟ الآيات واضحة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:٢٢] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤] إلخ، ويقولون: نحن إذا أردنا أن نفصل نريد أن نؤول، وإذا أولنا خالفنا السلف، إذاً نقف بين هؤلاء وهؤلاء.

وأنا أعرف من تجربتي وقراءتي للبحوث التي تقع في هذا العصر، أن أكثر الكتاب الإسلاميين اليوم من غير السلفيين مذهبهم التفويض، لا يأخذون بمذهب السلف وهو واضح جداً؛ لأن الخلف هونوا وقللوا من قيمة مذهب السلف حينما قالوا: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحسن.

بئس ما قالوا! معنى هذا الكلام: أن السلف ومن بينهم محمد صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وغيرهم، لم يفهموا الفهم الصحيح لهذه الآيات، لماذا؟ قالوا: لأن الولوج في تفسيرها قد يورط المفسر فيقع في شيء من التعطيل أو التشبيه، أما الخلف فقد ابتعدوا عن هذا وهذا، وجاءوا بالعلم الدقيق الصحيح بتفسير هذه الآيات كيف يمكن أن يعقل هذا؟!