للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الانتصارات الإسلامية في رمضان]

ومما ما حصل في هذا الشهر المبارك غزوتان عظيمتان: إحداهما غزوة بدر وكانت في السنة الثانية من الهجرة، وسمى الله تعالى يومها يوم الفرقان، قتل فيها صناديد قريش، وظهر فيها الحق على الباطل، وانتصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عدوه، وفيها يتأول قوله تبارك وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩] .

وأما الغزوة الثانية: فهي غزوة الفتح، فتح مكة، فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج من مكة أم القرى وهو أحق الناس بها، خرج منها خائفاً على نفسه بما حصل له من أذية قريش، حتى اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم: ماذا يصنعون بهذا الرجل، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:٣٠] أي: ليثبتوك بالحبس فلا تتحرك، أو يقتلوك بإزهاق النفس، أو يخرجوك من البلد، ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خرج من البلد بإذن الله عز وجل مختفياً؛ حتى بقي في غار ثور مختفياً ثلاث ليال؛ خوفاً من أن يدركه طلب قريش؛ لأن قريشاً بثت البعوث في طلب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حتى إنهم أخرجوا مائة بعير لمن يأتي به، ومائتي بعير لمن يأتي به وبصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ولكن الله تعالى من ورائهم محيط، وبما يكيدون لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليم، فكف الله أبصارهم عنه حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر ويقول أبو بكر: (يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا) لأنه ليس ثمة حائل، لا عش للعنكبوت، وليس ثمة ما يتروء بالبشر، فلا غصن عليه حمامة، كما قاله المؤرخون من غير سند صحيح، بل إن باب الغار مفتوح، وليس فيه ما يمنع الرؤية، ولكن الله عز وجل أعمى أبصارهم، فكان يقول: (لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا، فيجيبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!) حتى أنجاه الله.

وبعد ثمان سنوات رجع هذا الذي خرج من مكة مختفياً خائفاً من أهلها رجع فاتحاً ظافراً منصوراً مؤيداً بنصر الله عز وجل، حتى إنه وقف على باب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل، فقال لهم -أي: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم -أي: ما تظنون أن أفعل بكم بعد أن قدرت عليكم-؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم قال: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .

انظروا إلى هذا العفو العظيم عند المقدرة لقوم أخرجوه من بلده، أخرجوه من بلد الله الحرام الذي هو أحق الناس به! كما قال الله تبارك وتعالى في قريش: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:٣٤] .

هذه مناسبة عظيمة، بعدها ذل العرب وأكمل الله ذلك الذل بما حصل من هزيمة ثقيف، ودانت العرب لدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.