للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)

ثم قال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق:٢] طالب العلم يتشوف هنا إلى جواب القسم لأن القسم، لا بد فيه من أركان: مُقسِم ومُقسم به ومُقسم عليه وأداة قسم، لننظر الآن في هذه الآية: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:١] ففيها أداة القسم وهي الواو، وفيها المقسم به وهو القرآن، وفيها مُقسِم وهو الله عز وجل؛ لأن القرآن كلام الله، بقي الرابع وهو المقسم عليه فأين هو؟ اختلف في ذلك النحويون والمفسرون، ولكن ابن القيم وابن كثير رجحا بأن جواب القسم مضمون السورة كلها، وليس جملة معينة منها، والمعنى أن الله أقسم بالقرآن على كل ما في هذه السورة، وأنه حق لا يعتريه باطل ولا شك، وحينئذ لا نحتاج إلى جواب في جملة معينة.

{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق:٢] عجبوا: الفاعل كفار قريش، والدليل لذلك قوله: {مِنْهُمْ} [ق:٢] هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:٢] أي في العرب: {عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق:٢] هذا العجب هل هو عجب استحسان وإقرار أو عجب تكذيب وإنكار؟ الثاني هو المراد، فالعجب يأتي بمعنى الاستحسان والإقرار ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله) وتقول: تكلم فلانٌ فأعجبني كلامه، أي: سرني وأقررته، ويأتي العجب بمعنى الإنكار والتكذيب كما في هذه الآية: {عَجِبُوا} [ق:٢] أي عجب إنكار وتكذيب: {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق:٢] وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام منذر ومبشر، منذر لكل من خالفه بالعقوبة، ومبشر لكل من أطاعه بالثواب الجزيل.

{فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:٢] قال الكافرون: وكان الإنسان يترقب أن يكون اللفظ (فقالوا هذا شيء عجيب) لكن قال: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ} [ق:٢] إشارة إلى أن هذا العجب كفر ترتب عليه قولهم: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:٢] يعني: شيء يقتضي العجب وهو: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [ق:٣] فاستبعدوا أن يرجعوا ويبعثوا بعد أن كانوا تراباً، ولكن هذا العجب عجب استكبار، وإلا فإن أدنى عاقل يتأمل يعلم بأن هذا ليس بعجيب.

الرجوع إلى الله عز وجل يوم القيامة رجوع شيء كان، وبدء الخلق ابتداء شيء لم يكن، وأيهما أسهل؟ الأول أسهل؛ قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} [الروم:٢٧] نقول لأي إنسان ينكر البعث: ألم تكن من قبل معدوماً؟ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:١] فأوجدك الله، فالذي أوجدك من العدم قادر على أن يعيدك إلى ما كنت عليه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤] فلا عجب من ذلك؛ لكن هم تعجبوا عجب إنكار وتكذيب ومكابرة: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [ق:٣] جواب إذا محذوف معلوم من السياق، أي: (أئذا متنا وكنا تراباً نرجع) يعني: أنرجع إذا متنا وكنا تراباً؟ قالوا: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:٣] أي: غير ممكن أن نرجع، وهذا كقوله تعالى عن الإنسان: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨-٧٩] فالذي أنشأها أول مرة قادر على أن يعيدها مرة أخرى.