للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توجيهات رمضانية]

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذا هو اللقاء الشهري الذي يتم في ليلة الأحد الثالث من كل شهر، وهذه الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر شعبان عام ثمانية عشر وثمانمائة وألف، وهي أطول ليلة في السنة، ولهذا بعد يومين سيكر النهار على الليل ويأخذ من الليل ما أخذه منه، وهذا دليل على حكمة الله تعالى وقدرته، فهذه الشمس التي يختلف بها الليل والنهار تارة تكون في أقصى الجنوب وتارة تكون في أقصى الشمال، والذي يسيرها ويدبرها ويجريها إلى أجل مسمى هو خالقها عز وجل، قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:٧١] ما الجواب؟ لا أحد يأتينا بضياء إذا جعل الله الليل سرمداً إلى يوم القيامة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:٧٢] ؟

الجواب

لا أحد {أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص:٧٢-٧٣] أي: في الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:٧٣] أي: في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:٧٣] نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر نعمته وحسن عبادته.

نحن الآن في استقبال شهر رمضان، نسأل الله تبارك وتعالى أن يفيض علينا وعليكم من بركاته، وأن يجعلنا وإياكم ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً، ولكن كيف نستقبل هذا الشهر المبارك؟ إنه شهر لا نظير له في شهور السنة، إنه شهر خصه الله بخصائص لا توجد في غيره من شهور السنة، فهو الشهر الذي فرض الله صيامه، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام، وهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وهو الشهر الذي فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهو الشهر الذي أعز الله فيه هذه الأمة في بدر حيث كانت الغلبة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وهو الشهر الذي فتحت به أم القرى وأنقذها الله تعالى من الشرك والمشركين، ففي هذا الشهر فضائل سابقة وفضائل لاحقة.

ينبغي لنا أن نستقبل هذا الشهر بكل انشراح، وبكل سرور، وبكل عزم، وبكل نشاط على الأعمال الصالحة حتى نغتنم الفرصة، فكم من إنسان تمنى أن يدرك هذا الشهر ولم يدركه، وكم من إنسان أدرك هذا الشهر وفات عليه -خسره- ولم يعمل فيه شيئاً؛ لذلك أحث نفسي وإياكم على أن نستقبل هذا الشهر بالأعمال الصالحة المقربة إلى الله عز وجل، وأعظم ما فيه من الأعمال الصالحة الصيام؛ لأنه فرض، وركن من أركان الإسلام، ولكن هل الصيام أن نصوم عن الأكل والشرب والأهل؟ لا.

هذا صيام ظاهري حسي، لكن الصيام المعنوي الحقيقي هو: أن يصوم الإنسان عما حرم الله، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣] لم يقل: لعلكم تجوعون، لعلكم تعطشون، لعلكم تتشوقون للأهل، قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١] .

وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) إن الله تعالى لم يفرض علينا صيامه ليعذبنا به جوعاً وعطشاً وإمساكاً عن الأهل، إنما أراد منا أن ندع قول الزور والعمل به والجهل، فما قول الزور؟ قول الزور: كل قول محرم فهو قول زور، سواء شهادة زور، أو غيبة، أو نميمة، أو كذب، أو غير ذلك، كل قول محرم فهو قول زور؛ لأنه مأخوذ من الازورار وهو: الانحراف.

والعمل به -أي بالزور- ويراد به كل عمل محرم، كالنظر في النساء، والنظر في الكتب البدعية، والنظر إلى الأفلام السيئة وغير ذلك.

والجهل: العدوان على الناس، وليس ضد العلم؛ لأن الجهل هنا يراد به العدوان كما في قول الشاعر الجاهلي:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

معنى لا يجهلن أحد علينا أي: لا يعتد ويبغ علينا، فإن بغى علينا صرنا أشد منه.

ولا شك أن مؤمناً يمر به شهر كامل يتأدب بآدابه؛ لا شك أنه سيتغير مسيره، سيرجع إلى الله بعد الهرب منه، وسيرجع إلى الطاعة بعد المعصية، وستتهذب أخلاقه؛ لأن شهراً كاملاً يعتكف فيه الإنسان على ما يرضي الله عز وجل لا بد أن يؤثر فيه مهما كان.