للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ)

ثم إننا في هذه الليلة، أعني ليلة الأحد الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر، سوف نتكلم على قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:٧٢] .

قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا} [الأحزاب:٧٢] ، تحدث الله عن نفسه بصيغة الجمع: {إِنَّا عَرَضْنَا} [الأحزاب:٧٢] فلماذا؟ للتعظيم، لتعظيم نفسه عز وجل؛ لأنه سبحانه العظيم الذي لا أعظم منه، وقد شبه النصارى على عوام المسلمين فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى متعدد لأنه يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب:٧٢] ، ويقول: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس:١٢] ، ويقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:٩] ، فيشبهون؛ لأن هذه الضمائر تدل على الجمع، لكنها في اللغة العربية تدل على الجمع وعلى التعظيم، وهؤلاء عموا عن قول الله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٦٣] ، وهكذا كل من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه من القرآن والسنة فيضرب بعضه ببعض، ولكن يقيض الله عز وجل لدينه من يحفظه ويدفع هذه الشبهات ويبين الحق فيها، فمن هؤلاء؟ هؤلاء هم الراسخون في العلم؛ لقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:٧] ، أي: القرآن {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:٧] ، ذكر قسمين: آيات محكمات، وأخر متشابهات {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:٧] ، أي: ميل عن الحق وضلال {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:٧] ويدعون المحكم {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران:٧] ، أي: فتنة الناس عن دينهم {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:٧] أي: تحريفه على ما يريدون.

إذاً: قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب:٧٢] ، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس:١٢] ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:٩] ، وأشباهها من الآيات يراد بها التعظيم {عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} [الأحزاب:٧٢] أي: القيام بما يجب، {عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:٧٢] سبحان الله! مخلوقات عظيمة عرض الله عليها الأمانة هل تقوم بها أم لا؟ قال الله عز وجل: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب:٧٢] ، (أبين) أي: امتنعن عن حملها لأنها مسئولية عظيمة، ولعل قائلاً منكم يقول: كيف تعرض الأمانة على جماد؟ ف

الجواب

الجماد وذو الشعور أمام أمر الله على حد سواء، يوجه الله الخطاب إلى الجماد فيجيب الله عز وجل؛ لأن كل شيء بالنسبة لله على حد سواء، واسمع قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} [فصلت:١١] ، هذا أمر موجه للجماد {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١] ، هذا الجواب، أجابت هذه الجماد لله عز وجل.

ولما تجلى الله عز وجل للجبل حين قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] شوقاً إلى الله عز وجل، {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] ، فنظر موسى إلى الجبل بعد أن تجلى الله له فجعله دكاً، اندك لعظمة الله عز وجل وخشيته، فخر موسى صعقاً، غشي عليه؛ لما رأى من الهول العظيم، جبل أمامه صخر عظيم اندك في لحظة! ومن المعلوم أن الإنسان لا يتحمل هذا {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:١٤٣] .

أيها الإخوة: لقد قال الله عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر:٢١] ، هذا القرآن وهو كلام الله وصفةٌ من صفاته {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١] .

عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:٧٢] خفن منها ألا يقمن بواجب الأمانة، {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:٧٢] الله أكبر! حملها الإنسان، بماذا حملها؟ بما أعطاه الله من العقل والتفكير وبما أرسل إليه من الرسل وبين له السبل وهداه، (إنه) أي: الإنسان، (كان ظلوماً جهولا) .

وقوله: (إنه) قال بعض أهل العلم: الضمير يعود على الإنسان الكافر هو الظلوم الجهول، ليس عائداً على كل إنسان؛ لأن المسلم ذو عدل وذو علم وذو رشد، فالإنسان الذي كان ظلوماً جهولاً هو الكافر، أما المؤمن فلا يمكن، المؤمن يمنعه إيمانه عن الظلم، ويمنعه إيمانه عن السفه والغي.