للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فرعون وثمود)]

ذكر الله تعالى قصة فرعون في آيات كثيرة في القرآن الكريم وفي سور متعددة، وذلك لأن قصة فرعون مقدمة بين يدي رسالة موسى عليه السلام، وموسى كما هو معروف مبعوث إلى بني إسرائيل؛ وقد قص الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من نبأ موسى ما لم يقصه من نبأ غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف تكون هجرته إلى المدينة، والمدينة فيها ثلاث قبائل من اليهود ساكنة فيها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم من نبئهم الشيء الكثير؛ من أجل أن يكون على استعداد لمناظرتهم ومجادلتهم بالحق، حتى لا يخفى عليه من أمرهم شيء.

ففرعون: ملك مصر، وهل هو عَلَم شخص أو عَلَم وصف؟ بمعنى: هل فرعون اسم للجبار العنيد الذي بُعِث إليه موسى؟ أو أنه وصف لكل مَن مَلَك مصر وهو كافر؟ من العلماء من يقول: إنه علم شخص؛ يعني: أنه الذي أُرْسِل إليه موسى وهو جبار عنيد يسمى فرعون.

ومنهم مَن قال: إنه علم وصف لكل مَن مَلَك مصر كافراً، كما يقال: كسرى لكل مَن مَلَك بلاد الفرس، وقيصر لكل مَن مَلَك بلاد الروم، والنجاشي لكل مَن مَلَك الحبشة، وما أشبه ذلك.

والخلاف في هذا ليس بذاك المهم؛ لكن المهم أن فرعون قصته معروفة؛ كان جباراً عنيداً متكبراً، يَدَّعي أنه الرب، ويستهزئ بموسى، وبما جاء به من الآيات، ويتحداه، ويقول له صراحة وجهاً لوجه: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء:١٠١] ، ويفتخر ويقول لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:٥١-٥٣] .

وماذا كانت النتيجة؟! كانت النتيجة أن كفر به أخص الناس بكيده وهم السَّحَرة، فإن السَّحَرة لما جمعوا كل ما عندهم من السحر، وجاءوا لمقابلة موسى عليه الصلاة والسلام حيث إن موسى أتى بآية تشبه السحر؛ ولكنها ليست بسحر؛ بل هي آية من آيات الله، وهي أنه يضع العصا التي بيده -عصا من خشب-، فإذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى، فقال الناس: هذا سحر، فجُمِع السَّحَرة كلهم؛ أكبرُ السَّحَرة وأحذقهم بالسحر جُمِعُوا في وقت حدَّده موسى، حيث قال له فرعون: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً} [طه:٥٨] أي: مكاناً مستوياً منبسطاً حتى يشاهد الناس ما يشاهدون من السحر وأعمال السَّحَرة، فقال لهم: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:٥٩] ، ويوم الزينة يوم عيدهم، ويوم العيد -كما تعلمون- يكثر فيه تجمع الناس، ويهنئ بعضُهم بعضاً بالعيد، فاجتمعوا -كما وعدهم موسى- يوم الزينة، وحُشِر الناس، ومتى حُشروا؟ لم يُحشروا في الليل، أو في آخر النهار، أو أول النهار؟ بل حُشروا ضحى في رابعة النهار.

ولَمَّا حشروا ألقى السَّحَرة كل ما يكيدون من كيد وسحر، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:٦٦-٦٧] ؛ لأنه شاهد شيئاً عظيماً، فأوحى الله إليه أن يلقي العصا، فألقى العصا فإذا هي تلقف ما يأفكون، حينئذ علم السَّحَرة أن موسى صادق وأنه ليس بساحر؛ لأنه لو كان ساحراً ما غلبهم بسحره، فآمنوا بالله وكفروا بفرعون، و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١-١٢٢] ، وتحدوا فرعون.

وفي النهاية كانت نهاية فرعون أن أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به بالأمس، في قوله: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١] ، والأنهار: المياه، فأهلكه الله بجنس ما كان يفتخر به.

أما ثمود: فإن الله تعالى قد أعطاهم قدرة وقوة، وأترفهم، حتى كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ويتخذون من السهول قصوراً، وكانت لهم قوة وصرامة، فأُهْلِكوا حين كَذَّبوا نبيهم صالح عليه السلام أُهْلِكوا برجفة وصيحة، صِيْحَ بِهِم، وارتجفت بهم الأرض، فهَلَكوا عن آخرهم، {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:٦٧]-والعياذ بالله-.

فالله عز وجل يقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:١٧-١٨] ، وماذا كان من نبئهم؟ وفي هذا التنبيه فائدتان: الفائدة الأولى: تسليةُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقويتُه، وأن الذي نصر الرسل من قبله سوف ينصره، ولا شك أن هذا يقوِّي العزيمة، ويوجب أن يندفع الإنسان فيما كُلِّف به من تبليغ الرسالة.

والفائدة الثانية: تهديدُ قريش الذين كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم ليسوا أشد قوة من فرعون وثمود، ومع ذلك أهلكهم الله سبحانه وتعالى.