للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)]

فنبدأ بأول سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:١] البسملة سبق الكلام عليها، وأنها آية من كتاب الله مستقلة؛ ليست من الفاتحة ولا من البقرة، ولا من آل عمران ولا من أي سورة في القرآن، لكنها آية مستقلة تتنزل في ابتداء كل سورة، ولهذا كان الصحيح أن أول آية في الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] والثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣] والثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] والرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] والخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] والسادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧] والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] هذا هو القول الصحيح الذي دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:١] والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم، والخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يقوم الدليل على أنه خاص به فيختص به.

والقسم الثاني: أن يقوم الدليل على أنه عام، فيعم.

والقسم الثالث: ألا يدل الدليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصاً به لفظاً، عاماً له وللأمة حكماً.

مثال الأول: قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح:١-٢] وأيضاً قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء:٧٩] فإن هذا من المعلوم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ومثال الثاني: الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه قرينة تدل على العموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:١] فوجه الخطاب أولاً للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ولم يقل يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} ولم يقل: يا أيها النبي إذا طلقت، فدل هذا على أن الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة.

وأما أمثلة الثالث فهي كثيرة جداً، يوجه الله الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد: الخطاب له لفظاً وللعموم حكماً، هنا يقول الله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (سَبِّحِ) يعني: نزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإن التسبيح يعني: التنزيه، إذا قلت: سبحان الله يعني: تنزه الله عن كل سوء، عن كل عيب، عن كل نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى: السلام، القدوس؛ لأنه متنزه عن كل عيب، ونحن نضرب لكم الأمثلة: من صفات الله تعالى: الحياة، هل في حياته نقص؟ لا.

حياة المخلوق فيها نقص: أولاً: لأنها مسبوقة بالعدم، فالإنسان ليس أزلياً.

وثانياً: أنها ملحوقة بالفناء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:٢٦] .

ومن صفاته تعالى: السمع، وسمع الله ليس فيه نقص، يسمع كل شيء، حتى إن المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتي ذكر الله تعالى قصتها في سورة المجادلة، كانت تحدث النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١] .

ولهذا قالت عائشة: [الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إن المرأة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنه ليخفى علي بعض حديثها] .

إذاً: معنى سبحان الله: أي أنزه الله عن كل عيب ونقص.

وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال بعض المفسرين: إن قوله: (اسم ربك) يعني: مسمى ربك؛ لأن التسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصحيح أن معناه سبح ربك ذاكراً اسمه، يعني: لا تسبحه بالقلب فقط، بل سبحه بالقلب واللسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٧٤] يعني: سبح تسبيحاً مقروناً بالاسم؛ وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون مقروناً بالقلب -بالعقيدة- وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعاً، والكمال أن يسبح بهما جميعاً: بقلبه لافظاً بلسانه.

وقوله: (رَبِّكَ) الرب: معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق وهو المالك، وهو المدبر لجميع الأمور، وهل المشركون يقرون بذلك؟

نعم.

يقرون بذلك، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:٣٨] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] وأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم إذا سئلوا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:٣١] فهم يقرون بأن الله له الملك، وله التدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره من الجهل، كيف تقر بأن الله هو وحده الخالق المالك المدبر للأمور كلها وتعبد معه غيره؟! إذاً: معنى الرب على هذا هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، وكل إنسان يقر بذلك يلزمه ألا يعبد إلا الله، كما تدل عليه الآيات الكثيرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:٢١] قال: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) يعني: لا تعبدوا غيره.

وقوله تعالى: {الْأَعْلَى} من العلو، وعلو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات.

أما علو الصفة: فإنه أكمل الصفات لله عز وجل، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل:٦٠] .

وأما علو الذات: فهو أن الله تعالى فوق عباده مستوٍ على عرشه، والإنسان إذا قال: يا الله! فأين يتجه؟ إلى السماء -إلى فوق- فالله جل وعلا فوق كل شيء مستوٍ على عرشه.

إذاً {الْأَعْلَى} إذا قرأتها فاستشعر في نفسك أن الله عال بصفاته وعالٍ بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول: سبحان ربي الأعلى يتذكر بسفوله هو علو الله عليه، فالإنسان ينزل في حال السجود أشرف ما فيه وأعلى ما فيه وهو وجهه، ويجعله في الأرض التي تداس بالأقدام، فكان من الحكمة أن يقول: سبحان ربي الأعلى، يعني: أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء؛ لأني نزلت أنا أسفل كل شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول: سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكمل كل شيء في الصفات.