للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجمع بين حديثي: (إن البحر هو جهنم) و (يؤتى بجهنم يوم القيامة ولها سبعون زمام)]

فضيلة الشيخ! ما وجه الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن البحر هو جهنم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يوم القيامة بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) كيف نجمع بينهما؟

أما الأول وهو قوله أنه قال: (إن البحر هو جهنم) فلا يصح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن كثيراً من العلماء قالوا في قول الله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:٦] إنها هي جهنم، ومعنى سجرت: أوقدت فتكون ناراً.

ولا منافاة بين هذا وهذا؛ لأن أحوال يوم القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا؛ أحوال الدنيا يوم القيامة لا يعرفها أحد -أي: لا يعرف حقيقتها وكنهها- إلا الله عز وجل، أو من شاهدها يوم القيامة، أما الآن فأحوال الآخرة غير معلومة من حيث الحقيقة، ولا يمكن أن نقيسها بأحوال الدنيا، فيمكن أن تكون هذه البحار يؤتى بها يوم القيامة وهي نار تجر بسبعين ألف زمام، ولا غرابة في ذلك.

وأقول لكم: إنه لا يمكن أن تقاس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا لئلا يشتبه عليكم شيء آخر أعظم من هذا، وهو أنه في يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس حتى تكون على قدر ميل، والميل: إما هو ميل المكحلة وهو قصير جداً، وإما ميل المسافة الذي هو كيلو ونصف تقريباً، وأياً كان فإننا لو قسنا أحوال الآخرة بأحوال الدنيا لكانت الشمس إذا قربت من الناس إلى هذا الحد انمحوا من الوجود لشدة حرارتها.

وأيضاً أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يعرقون يوم القيامة على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق، وهم في مكان واحد.

ولو قسنا هذا بأحوال الدنيا لكان ذلك متعذراً، لكن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وهذا أمر يجب على الإنسان أن يتفطن له وألا يقيس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا، كما أنه لا يجوز أن يقيس صفات الله عز وجل بصفات المخلوقين، فمثلاً: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) وهو نزول حقيقي يليق بجلاله وعظمته، وجاءت الآية الكريمة: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:٢٥٥] وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:٦٧] فيقول: كيف يكون هذا؟ كيف يكون نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، والسماء الدنيا بالنسبة إليه ليست بشيء؟ فيقال: يجب عليك السمع والتصديق في الأخبار، والسمع والطاعة في الأحكام، سواءً أدرك ذلك عقلك أم لم يدركه؛ لأن ما يتعلق بالرب جل وعلا لا يشبه ما يتعلق بالمخلوقين، فنحن نؤمن بأن الله ينزل نزولاً حقيقياً إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ولكن كيف ذلك؟ الله أعلم، وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن قول الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] كيف استوى؟ فأطرق برأسه حتى علاه الرحضاء -وهو العرق- خجلاً وحياءً، وتحملاً لهذا السؤال العظيم، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.