للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً)

يقول الله عز وجل: إذا رأيت هذه العلامة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:٣] كان متوقع أن يكون

فاشكر الله على هذه النعمة, واحمد الله عليها, نصر وفتح, ما جزاؤه من العبد؟ الشكر, هذا هو المتوقع, لكن صار المتوقع على خلاف ما نتوقع, قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:٣] وهذا نظير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان:٢٣-٢٤] كان المتوقع {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} أن يقال: فاشكر ربك على هذا التنزيل, وقم بحقه وما أشبه ذلك, لكن قال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إيذاناً بأنه سوف ينال أذىً بواسطة إبلاغ هذا القرآن ونشره بين الأمة, {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} فكان الجواب يبدو متناكراً مع الشرط, لكن عندما تتأمل تعرف الحكمة, المعنى: أنه إذا جاء نصر الله والفتح, فقد قرب أجلك فما بقي عليك إلا التسبيح والحمد: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} أي: سبحه تسبيحاً مقروناً بالحمد, والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله, والحمد: هو الثناء عليه بالكمال مع المحبة والتعظيم, اجمع بين التنزيه وبين الحمد, {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} أي: اسأله المغفرة, فأمره الله تعالى بأمرين: الأمر الأول: التسبيح المقرون بالحمد.

الأمر الثاني: الاستغفار, وهو: طلب المغفرة, والمغفرة: ستر الله تعالى على عبده ذنوبه مع محوها والتجاوز عنها, وهذا غاية ما يريد العبد؛ لأن العبد كثير الذنْب, يحتاج إلى مغفرة, إن لم يتغمده الله برحمته هلك, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله, قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) اللهم تغمدنا برحمتك, لا أحد يدخل بعمله الجنة أبداً؛ لأن عملك هذا لو أردت أن تجعله في مقابل نعمة من النعم -نعمة واحدة- لأحاطت به النعم, فكيف يكون عوضاً تدخل به الجنة؟ ولهذا يقول بعض العارفين في نظم له:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر

قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:٣] أي: لم يزل عز وجل تواباً على عباده, فإذا استغفرته تاب عليك, هذا هو معنى السورة, لكن السورة لها مغزىً عظيم لا يتفطن له إلا الأذكياء, ولهذا لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الناس انتقدوه في كونه يدني عبد الله بن عباس مع صغر سنه ولا يدني أمثاله من شباب المسلمين, وعمر رضي الله عنه من أعدل الخلفاء الراشدين, أراد أن يبين للناس أنه لم يحابِ ابن عباس في شيء, فجمع كبار المهاجرين والأنصار في يوم من الأيام ومعهم عبد الله بن عباس وقال: ما تقولون في هذه السورة: (إذا جاء نصر الله والفتح) ؟ ففسروها بحسب ما يظهر فقط, فقال: ما تقول يا بن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنى كأن الله يقول له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:١-٢] فقد انتهت مهمتك, ولن يبقى عليك إلا الرحيل, وأنت ما خلقت للدنيا لتتنعم فيها وتبقى فيها طويلاً, خلقت لمهمة انتهت, فهو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم.

فتبين من ذلك فضل ابن عباس وتميزه، وأن عنده من الذكاء والمعرفة بمراد الله عز وجل ما افتقده كثير من الناس.

لما نزلت هذه السورة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي هو أشد الناس عبادة لله وأتقاهم لله- جعل يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لي) فنقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لنا ذنوبنا, وإسرافنا في أمرنا, وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.