للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم)]

قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} (بَلْ) هنا: للإضراب الانتقالي، وليست للإضراب الإبطالي؛ لأن الأول ثابت، والثاني زائد عليه، وهذا هو الفرق بين (بَلْ) التي لإضراب الإبطال، وبين (بَلْ) التي لإضراب الانتقال، فصارت (بَلْ) للإضراب دائمة؛ لكن إن كانت تبطل الأول فسموها: إضراب إبطال، وإن كانت لا تبطله فهي: إضراب انتقال، كأنه انتقل من موضوع إلى آخر.

{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} ولكن قلوبهم موقنة، إلا أن ألسنتهم تكذب، كما قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) [النمل:١٤] .

{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} (لَمَّا) هنا: بمعنى حين، فهي ظرف، وليست حرفاً.

{لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} (الفاء) هنا: للتعقيب والسببية، والمعنى: فهم لما كذبوا بالحق في أمرٍ مختلط، اختلط عليهم الأمر والعياذ بالله، وهذا كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:١١٠] لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:١١٠] هؤلاء لما كذبوا صاروا في أمر مريج، التبس عليهم الأمر، وترددوا في أمرهم.

وهكذا كل إنسان يَرُدُّ الحق أول مرة فليعلم أنه سيُبتلى بالشك والريب في قبول الحق في المستقبل.

ولهذا يجب علينا من حين أن نسمع أن هذا الشيء حق أن نقول: سمعنا وأطعنا، خلافاً لبعض الناس الآن: تقول له: أمر الرسول بهذا.

يقول: لكن! الأمر للإيجاب أو للاستحباب؟! سبحان الله! افعل ما أمرك به سواء على الوجوب أو على الاستحباب.

فإذا ترددتَ؛ لأن معنى قوله: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟! معناه: إذا كان للاستحباب فأنا في حل منه، وإذا كان للوجوب فعلته، هذا خطأ، قل: سمعنا وأطعنا، ثم إذا وقعت المخالفة فحينئذ ربما يكون السؤال عنه: هل هو واجب أو مستحب، ربما يكون وجيهاً، أما قبل ذلك فلا.

قد يقول قائل: هل هو واجب أو مستحب؛ لأن هناك فرقاً بين الواجب والمستحب أيهما أحب إلى الله؟ الواجب أحب إلى الله، فأنا أفعله من أجل إذا اعتقدتُ أنه واجب أثاب عليه ثواب واجب، وإذا اعتقدتُ أنه سنة أثاب عليه ثواب سنة.

قلنا: نعم، هذا أفضل، لكن ثواب انقيادك للحق لأول مرة وبكل سهولة وبدون سؤال أفضل من كونك تعتقده واجباً أو مستحباً، وإذا كان الله قد أوجبه عليك أثابك ثواب الواجب، وإن كنت لا تدري، فالانقياد وتمام الانقياد أفضل بكثير من كوني أعتقد هذا واجباً أو مستحباً.