للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي)

ثم قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النجم:٣١] يقول علماء البلاغة: إنه إذا تقدم ما حقه التأخير فهو دليلٌ على الحصر والتخصيص، ولننظر في هذه الآية هل فيها تأخير وتقديم؟ (لله ما في السماوات وما في الأرض) (لله) خبر مقدم، و (ما في السماوات) مبتدأ مؤخر.

إذاً قدم فيها ما حقه التأخير وهو الخبر؛ لأن حق الخبر أن يكون متأخراً عن المبتدأ تقول: الرجل قائمٌ، ولا تقل: قائمٌ الرجل، فالأصل أن المبتدأ على اسمه يكون هو الأول والخبر هو الثاني، لكن أحياناً يقدم الخبر لفائدة، فهنا الفائدة: (ولله ما في السماوات) والفائدة الحصر، والحصر يعني: لله لا لغيره، (ما في السماوات وما في الأرض) ولا أحد يملك ما في السماوات وما في الأرض إلا الله تبارك وتعالى، نحن نملك ما نملك من أموالنا لكن هل ملكنا عام؟ ليس عاماً، حقيبتي ليست حقيبة لك، وحقيبتك ليست حقيبةً لي، فأملاكنا ليست عامة، ثم هل نحن نملك التصرف بما هو ملكنا كما نشاء؟! لا، تصرفنا محدود حسب الشريعة، ولهذا لو تراضى اثنان في بيع الربا قلنا: إنكما لا تملكان ذلك، لو أراد الإنسان أن يحرق ماله قلنا: هذا ممنوع.

إذاً ملك غير الله قاصر غير شامل، وملك غير الله قاصر حتى بالتصرف، الواحد منا لا يملك أن يتصرف في ماله كما يشاء؛ لأن تصرفنا في المال محدود حسب ما جاءت به الشريعة.

إذاً الملك التام الواسع الشامل لله عز وجل، ولهذا قال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى:٤٩] فهو مالكٌ لذواتهما، مالكٌ لما فيهما أيضاً، وكم من ملك في السماوات؟ كم من مخلوقٍ في الأرض؟ كله ملكٌ لله عز وجل يتصرف فيه كما يشاء، حسب ما تقتضيه حكمته، وإيماننا بأن الله ملك السماوات والأرض يفيد أيضاً فائدتين عظيمتين: الفائدة الأولى: الرضا بقضاء الله، وأن الله عز وجل لو قضى عليك مرضاً لا تعترض، ولو قضى عليك فقراً لا تعترض؛ لأنك ملكه يتصرف فيك كيف يشاء، فهو كما يتصرف في السحاب يمطر أو لا يمطر، يمضي أو لا يمضي، ويتصرف في الشمس والقمر، ويتصرف في المخلوقات، يتصرف فيك أيضاً كما يشاء، إن شاء أعطاك صحة وإن شاء سلبها، إن شاء أعطاك عقلاً وإن شاء سلبه، إن شاء أعطاك مالاً وإن شاء سلبك، أنت ملكه، فإذا آمنت بهذا رضيت بقضائه.

الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبول شرعه والقيام به، لأنك ملكه، قال لك: افعل افعل، قال: لا تفعل لا تفعل، أرأيت لو كان لك ملك عبد رقيق فأمرته ولكنه لم يفعل، هل تعتقد أن سيادتك تامة عليه؟ لا، أو نهيته ففعل فالسيادة ناقصة.

إذاً: أنت إذا عصيت ربك إما بفعل المحرم وإما بترك الواجب؛ فإنك خرجت عن مقتضى العبودية التامة؛ لأن مقتضى العبودية التامة أن تخضع لشرعه كما أنك خاضعٌ كرهاً أو طائعاً لقضائه وقدره، وليس معنى قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى:٤٩] أن يخبرنا أنه مالك فقط، لكن من أجل أن نعتقد مقتضى هذا الملك، وما هو مقتضاه؟ الرضا بقضائه والرضا بشرعه، فهذا حقيقة الملك.

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١] انظر! جاءت كلمة (ليجزي) كأن قائلاً يقول: وإذا تبين أن الملك لله فما النتيجة؟ أن الناس بين محسن وبين مسيء، كما قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:٢] إذا كانوا بين محسن ومسيء فما جزاء كل واحد؟ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} [النجم:٣١] (الذين أساءوا) وهم الذين خالفوا المأمور أو ارتكبوا المحذور، هذا هو الضابط، هؤلاء أساءوا، (ليجزيهم بما عملوا) السيئة بالسيئة لا تزيد، أو يعفو عز وجل عمن يستحق العفو، وهو كل من مات على غير الشرك فهو مستحق للعفو، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] المهم أنه لا يمكن أن يزيد سيئة لم يعملها الإنسان، ولهذا قال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} [النجم:٣١] بدون زيادة، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١] ولم يقل: بما عملوا؛ لأن فضل الله أوسع من أعمالهم، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١] أنت إذا فعلت حسنة تكون عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة.

انظر الآن مثلاً صلاة الظهر بقي لها ثلث ساعة عندما تتوضأ وتسبغ الوضوء ثم تخرج من الصلاة لا يخرجك من بيتك إلا الصلاة فما الثمرات التي تحصل عليها؟ كل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة ويحط عنك بها خطيئة، كم عدد الخطوات؟ لا يحصيها إلا الله عز وجل، مع أن المقصود شيء واحد وهو الصلاة، لكن سعيك إلى الصلاة فيه أجر، ما دمت خرجت من بيتك لا يخرجك إلا الصلاة وتأهبت في بيتك، وأسبغت الوضوء في بيتك، فأنت لا تخطو خطوة إلا رفع الله لك بها درجة وحط عنك بها خطيئة، وهذه الخطوات لا يحصيها إلا الله.

ثم إذا وصلت المسجد وصليت ما شاء الله ثم انتظرت الصلاة ولو تأخر مجيء الإمام عن صلاة الجماعة يكتب لك أجر المصلي، (لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) أليس هذا أحسن من أعمالنا؟!! بلى، ولهذا قال: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١] أي: بما هو أحسن وأكثر من عملهم، وهذا يدلك على سعة فضل الله عز وجل وإحسانه وكمال أدبه، فالمسيئون يجازيهم بالعدل أو يعفو، والمحسنون يجازيهم بالفضل.