للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم)]

قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:٣٢] لا تقل: عملت كذا وكذا، صليت زكيت صمت جاهدت حججت لا تقل هكذا، تدل بعملك على ربك، هذا لا يجوز، فإن قال قائل: أليس الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:٩] ؟ ف

بلى، لكن معنى: (من زكاها) أي: من عمل عملاً تزكو به نفسه، وليس المعنى: (من زكاها) من أثنى عليها ومدحها بأنها عملت وعملت، بل المراد عمل عملاً تزكو به نفسه، فلا معارضة بين الآيتين، ولهذا نقول: من زكى نفسه بذكر ما عمل من الصالحات فإنه لم يزك نفسه حقيقة؟ من زكى نفسه فإنه لم يزك نفسه، فرق بينهما.

التزكية التي يحمد عليها الإنسان: أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً تزكو به نفسه.

والتزكية التي يذم عليها: أن يدل بعمله على ربه ويمدحه، وكأنه يمن على الله، يقول: صليت تصدقت صمت حججت جاهدت بررت والدي وما أشبه ذلك، هذه لا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه، ويقول: أنا من أنا، وفي هذا رد على أولئك الصوفية الذين يدعون أنهم أئمة، ويزكون أنفسهم، ويقول: وصلنا إلى حدٍ لا تلزمنا الطاعات؛ لأن هناك من الناس من يقول: إنه وصل إلى عالم الملكوت ولا عليه صلاة، ولا عليه صدقة، ولا عليه صيام، ولا يحرم عليه شيء، وهؤلاء منسلخون من الدين انسلاخاً تاماً، لذلك نقول: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم هم أبعد الناس عن الزكاة؛ لأنهم أعجبوا بأعمالهم وأدلوا بها على الله عز وجل، وجعلوا لأنفسهم منصباً لم يجعله الله تعالى لهم.

قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} كأنه يقول: لماذا تزكون أنفسكم؟!! أتريدون أن تعلموا الله بما أنتم عليه؟ الجواب: لا، ولهذا قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} أي: إن كنت متقياً لله فالله أعلم بك، لا حاجة إلى أن تقول لله: إني فعلت وفعلت.

وفي هذا إشارة إلى أن النطق بالنية عند فعل العبادة قد يدخل فيه نوع من التزكية، يعني: إذا أردت أن تتوضأ هل تقول: اللهم إني نويت أن أتوضأ؟ لا، هل تقولها سراً؟ لا، بعض العلماء يقول: قلها سراً بينك وبين نفسك، وعللوا هذا قالوا: من أجل أن يطابق اللسان القلب، القلب نوى لكن قل باللسان: اللهم إني نويت أن أتوضأ، أو نويت أن أصلي أيضاً، تريد تصلي قل: اللهم إني نويت أن أصلي، متى؟ الظهر أو العصر؟ الظهر، وهل تحتاج إلى عدد الركعات أو لا تحتاج؟ لا ما تحتاج، فما دام عينت يكفي، بعض العلماء يقول هكذا -يا إخوان- وهم علماء أجلاء من الفقهاء.

لماذا النطق باللسان؟ لتطابق القول القلبي واللساني.

فيقال: هذا غلط، هذا قياسٌ في مقابلة النص، هل الرسول عليه الصلاة والسلام شرع لأمته أن ينطقوا بالنية؟ أبداً، لا في حديث صحيح ولا ضعيف: أن الإنسان إذا أراد العمل نطق النية، أبداً ما يوجد.

ومن الطرف الطريفة: أن رجلاً عامياً في المسجد الحرام سمع شخصاً يريد أن يصلي، فقال بعد أن أقيمت الصلاة: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات في المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبر قال له: باقي عليك، قال: ما هو الباقي؟ قال: باقي التاريخ، قل في اليوم الفلاني، فأنت الآن ذكرت المكان وذكرت العمل وباقي التاريخ قل: في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة الفلانية.

مداخلة: مأموماً؟ الشيخ: لا أعلم مأموم أو غير مأموم المهم أنه قال له الكلام هكذا، فانتبه الرجل وقال له: يا أخي! أنت تعلم ربك بنيتك، الله أعلم بنيتك: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩] .

كذلك عند الصيام مثلاً: إذا تسحر الإنسان وأراد أن يصوم يقول: اللهم إني نويت الصيام إلى الليل؟ لا يقول هذا، ونحن عندما كنا صغاراً كانوا يلقوننا هذا، يقول: إذا تسحرت قل: اللهم إني نويت الصيام إلى الليل، ونقوله؛ لأننا لا ندري، لكن في الواقع أن هذا من البدع.

بقي أن يقال في الحج هل تقول: اللهم إني نويت العمرة، أو نويت الحج، أو نويت القران، أو التمتع؟ لا ما تقوله، حتى في الحج عندما تغتسل وتلبس الإحرام لا تقل: اللهم إني نويت العمرة أو نويت الحج، بل تكفي التلبية؛ لأنك سوف تقول لبيك عمرة إن كنت في عمرة، أو لبيك حجاً إن كنت في حج، أو لبيك عمرة وحجاً إن كنت قارناً، فلا حاجة، فكل العبادات لا ينطق فيها بالنية، ولهذا قال عز وجل: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .