للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جواز الاكتحال للصائم]

فضيلة الشيخ: كنتُ أقرأ في مجلس كتابَكم (شرح بلوغ المرام) في كتاب الصيام، وكان الموضوع الاكتحال، حيث مال فضيلتكم إلى أنه لا يفسد الصوم على ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية، فاعترضَ عليَّ قاضٍ في هذا المجلس، وقال: كيف ينشر الشيخ مثل هذا على عامة الناس؟! كأنَّ الأحوط أن الاكتحال يفسد الصوم، وتكلم في هذا الموضوع حتى قال: وهذا مثل قوله: إن التعزية بدعة، مع أن التعزية فيها شيء من وصل التراحم بين الناس.

فما ردكم على مثل هذا القول؟

أما مسألة الاكتحال: فلا بد من بيانها للناس؛ لأن الاكتحال مما تدعو الحاجة إليه أحياناً، فإذا قلنا للصائم: لا تكتحل حرمناه مما أحل الله له وهو محتاج إليه، فضيقنا على الناس ما هو واسع.

وأما قوله: إن الاحتياط اتباع هؤلاء: فنقول: ما هو الاحتياط؟ الاحتياط: اتباع ما دلت عليه السنة، وليس الاحتياط الأخذ بالأشد، قد يكون الأخذ بالأيسر هو الاحتياط، فالاحتياط هو موافقة الشرع، ونحن يلزمنا إذا علمنا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حكماً أن نبينه للناس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧] لا سيما في المسائل التي يحتاج الناس إليها.

والكحل يحتاج الناس إليه، خصوصاً الذين اعتادوه وصارت أعينهم لا يستقيم نظرها إلا به، فما ظنك برجل يحتاج إلى الكحل أو امرأة؛ ولكنه نسي أن يكتحل حتى طلع الفجر وصار صائماً، فإن قلنا: لا تكتحل، تَعِبَ في نظره، وإن قلنا: اكتحل وأفطر، أفسدنا صومه.

وليس هناك دليل.

فهذا جوابنا على هذه المسألة وعلى غيرها أيضاً، كل شيء يحتاج الناس إلى بيانه يجب على العالِم أن يبين ما يتبين له الحق فيه؛ لأنه مسئول عن ذلك.

وأما مسألة العزاء: فالعزاء إنما كان تركه قطيعة رحم؛ لأن الناس اعتادوه، فصار الذي يتخلف عنه عندهم قاطع رحم؛ لكن لو أن الناس تركوه كما تركه الصحابة والتابعون لَمَا صار تركه قطيعة رحم، وصار تركه عادة، ولهذا لو أن طلبة العلم بينوا للناس هذا الأمر، وبدءوا بأنفسهم هم كما بدأنا بأنفسنا؛ والدِينا توفوا مثلاً ولم نجلس للعزاء، أو والداتنا توفيت ولم نجلس للعزاء، لو أن أهل العلم فعلوا ذلك لكان فيه خير كثير، ولترك الناس هذه العادات، لا سيما في بعض البلاد، فإذا مررت ببيت مات فيه ميت قلتَ: هذا بيت فيه زواج! لأنك ترى فيه من الأنوار في الداخل والخارج، والكراسي، والأشياء ما ينافي الشرع، وفيه إسراف وبذخ.

فالواجب على الإنسان أن يعرف الحق من الكتاب والسنة لا من عادات الناس، لو أن الناس تركوا هذه العادات وصار العزاء حيثما وُجِدَ المعَزَّى، فإن وُجِدَ في السوق، أو في المسجد عُزِّي، لكان خيراً، وأيضاً: التعزية إذا كان مصاباً أو كان قريباً، بعض الأقارب لا يهتم بموت قريبه، وربما يفرح إذا مات قريبه، قد يكون بينه وبين قريبه مشادات ومنازعات وخصومات، فإذا مات قال: الحمد لله الذي أراحني من هذا.

فالتعزية للمصاب فقط، كما جاء في الحديث: (مَن عَزَّى مصاباً فله مثل أجره) فقال صلى الله عليه وسلم: (مصاباً) ، ولم يقل: (مَن عَزَّى مَن مات له ميت) .

فمثل هذه المسائل يجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس الحق فيها، حتى يصير الناس به على الهدى لا على الهوى، فعلى كل حال كل له رأيه.

ولكن أقول: الواجب لمن كان ناصحاً لله ولأئمة المسلمين، إذا رأى من أخيه شيئاً يرى أنه خطأ فعليه أن يكلِّم أخاه مباشرة، ويقول له: أنت قلت كذا وكذا، وأشكَلَ علينا حتى لا تحصل البلبلة في العامة.

وأيضاً: إذا ارتدع المخطئ من نفسه أحسن مما إذا رُدَّ عليه، وربما إذا رُدَّ عليه يركب رأسه ويرتكب الخطأ وقد تبين له الخطأ، تأخذه العزة بالإثم.

فالواجب على العلماء إذا رأوا من إخوانهم خطأً أن يكلموهم، وقد يكون الخطأ في فهمهم وهو صواب، ويرجعون إليه.

ولذلك أنا أود أن تقول لهذا الأخ الذي قال: الاحتياط: أن الاحتياط هو: ما جاء في الكتاب والسنة، هذا هو الاحتياط.

فأين في كتاب الله أو سنة رسول الله أن الكحل مُفْطِّر؟ فإذا كان عنده نص من القرآن أو السنة فعلى العين والرأس، وإذا لم يكن عنده نص فالأصل أن صوم المكتحل صحيح منعقد بمقتضى دليل الشرع، لا يمكن أن نضيق على عباد الله وأن نحرم عليهم ما أحل الله لهم إلا بالدليل؛ لأن الله سبحانه وتعالى سيسألنا: لماذا حرمتم على عبادي هذا الشيء بغير إذن مني؟ فالمسألة ليست بِهَيِّنة؛ لأن تحريم الحلال أشد من تحليل الحرام، فتحليل الحرام فيه تسهيل، أما تحريم الحلال ففيه تشديد، والدين الإسلامي يميل إلى السهولة واليسر أكثر مما يميل إلى التضييق والعسر، وإن كان كلٌّ من تحريم الحلال وتحليل الحرام يؤدي بصاحبه إلى الهلاك؛ لأنه افتراء على الله، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:١١٦] .