للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (الرحمن)]

أما موضوع لقائنا هذا اليوم فإنا نتكلم بما تيسر على ما سمعناه من قراءة إمامنا سورة الرحمن.

هذه السورة من أعظم السور، ففيها ابتدأ الله تعالى بهذا الاسم الكريم: {الرَّحْمَنُ} [الرحمن:١] وهو مبتدأ وجملة {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:٢] خبر المبتدأ، فما الرحمن؟ الرحمن اسم من أسماء الله، بل هو من أشرف أسمائه وأعظمها، والعجب أن المشركين ينكرونه، يقولون: ما الرحمن؟ ولا ندري ما الرحمن؟ حتى عند كتابة الصلح بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية، النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: ما نعرف الرحمن؟! ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم -انتبه- ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله -وذكر بقية الحديث- قالوا: ما نقبل، لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال الرسول: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) ثم ذكر الشروط.

انظر يا أخي! كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي المصلحة في أمرٍ عظيم، في عدم كتابة اسم من أسماء الله، وفي عدم كتابة رسالته مع أنه حق، ولهذا قال: (إني والله لرسول الله وإن كذبتموني) تنازل عن اسم من أسماء الله وعن الإقرار برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، كل ذلك من أجل المصلحة، ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية بركت الناقة، فزجرها فلم تقم، فقال الناس: خلأت القصواء -يعني: حرمت ولم تقدم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق) دافع حتى عن البهائم، الظلم لا أحد يرضاه، تظلم الناقة ويقال: خلأت وهي ليست من عادتها، ولكن يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها شعائر الله إلا أجبتهم إليها) وفعلاً هذا الذي حصل؛ أجابهم على هذا الأمر العظيم، محو اسم الرحمن من البسملة، والثاني محو وصفه بالرسالة عليه الصلاة والسلام كل هذا لتعظيم حرمات الله، وتعرفون أيضاً أنه ذُكر شروط صعبة على المسلمين ومع ذلك قبلها، من أعظم الشروط: أن يرجع ولا يتموا العمرة، وأن يأتي من العام القادم، وألا يبقى إلا ثلاثة أيام، وأن من جاء منهم مسلماً رده إليهم، ومن ذهب إليهم من المسلمين لا يردونه، ما تقولون بهذا الشرط؟ إن ظاهره الحيف والجور، كيف نقول: من جاء منكم مسلماً رددناه إليكم، ومن جاءكم منا لا تردونه؟! ولهذا حاول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلغاء هذا الشرط، وناقش الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.

قال: فلم نعطِ الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولن أعصيه وهو ناصري) فدل هذا على أن الشروط هذه كانت بإقرار من الله عز وجل، ثم ذهب عمر إلى أبي بكر؛ لأن أبا بكر أخص الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اتخذه خليلاً، وهو الذي قال عنه: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر) ذهب يناقش أبا بكر، فكان جواب أبي بكرٍ رضي الله عنه كجواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، فكتبت الشروط، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مدافعاً عن هذا الشرط الثقيل: (أما من جاء منهم مسلماً فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، وأما من ذهب منا إليهم فلا رده الله) لأن من ذهب من المسلمين إلى الكفار يعني: أنه اختار الكفر على الإيمان، لكن من جاء منهم مسلماً ثم رده المسلمون، فإنه سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، ووقع الأمر كذلك.

ما الذي حصل بعد هذا؟ قصة أبي بصير رضي الله عنه حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً فألحقت به قريشٌ رجلين يطلبانه من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما وصل المدينة وإذا بالرجلين يلحقانه، فطلبا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرده إليهما وقالا للرسول: الشرط يا محمد! فرده معهما وذهبا به إلى مكة وفي أثناء الطريق جلسوا يطعمون، فأخذ سيف واحدٍ منهما وجعل يمدح السيف بعد أن سله، ثم ضرب به رقبة صاحبه، ولما فعل هرب صاحبه الذي لم يقتل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب أبو بصير بأثره حتى بلغ الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: (يا رسول الله! إن الله تعالى قد أبرأ ذمتك حين رددتني معهما، ولكن الله أنقذني -أو كلمة نحوها- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو يجد من ينصره) فعرف أبو بصير أن الرسول سيرده مرة ثانية، فخرج من المدينة ونزل في سيف البحر على جادة قريش، إذا ذهبوا بعيرهم إلى الشام راجعين إلى مكة، فصار كلما مرت عير لقريش أخذها؛ لأن قريشاً في ذلك الوقت كانوا حربيين بالنسبة لهذا الرجل، وإن كان بينهم العهد، لكن هذا الرجل رد إليهم فسمع به أناسٌ من الصحابة في مكة فخرجوا إليه واجتمعوا حتى كانوا عصابة، وفي النهاية رضخت قريش، وقالت: يا محمد! كف عنا هؤلاء وردهم! فرجعوا إلى المدينة.

فالمهم أننا نقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يدع شيئاً تعظم فيه حرمات الله إلا فعله، وأن أسعد الناس بشفاعته من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يدخلنا في شفاعته، وأن يسقينا من حوضه، وأن يجمعنا به في جنات النعيم.

يقول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ} والرحمن اسم من أسماء الله، وكل اسمٍ من أسماء الله يتضمن صفة من صفات الله، وليس في أسماء الله ما لا يدل على صفة إطلاقاً، لكن أسماء المخلوقين هل تدل على الصفات؟ لا.

قد يقال: هذا (عبد الله) وهو من أكفر عباد الله، ليس فيه شيءٌ من صفات العبودية، وقد يقال: فلان اسمه (صالح) وهو من أفسد عباد الله، لكن أسماء الله لابد أن تتضمن صفة دل عليها هذا الاسم.

ولذلك أنا أقول: كل اسمٍ متضمنٍ لصفة، وليس كل صفةٍ متضمنة لاسم، وبهذا نعرف أن الصفات أوسع من الأسماء، إذ قد يوصف الله عز وجل بصفة ولكن لا يشتق منها اسم لله، ولكن كلما وجدت اسماً فإنه متضمن لصفة.

مثلاً: الرحمن متضمن للرحمة، السميع للسمع، البصير للبصر، الحكيم للحكمة وهلم جرا، ولذلك غلط المعتزلة الذين يقولون أنهم عقلاء، فخالفوا العقل في قولهم: إن أسماء الله مجردة عن الصفات، نقول: كيف يمكن أن يسمى السميع ولا سمع له، هل هذا معقول؟! أبداً.

ليس صحيحاً نقلاً ولا عقلاً.

(الرحمن) من رحمة الله عز وجل ما نراه من النعم الكثيرة واندفاع النقم، فكم لله علينا من نعمة!! {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:١٨] كلها من آثار رحمته؛ المطر من رحمته، نبات الأرض من رحمته، الأمن من رحمته، الرخاء في العيش من رحمته: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:٥٣] .

<<  <  ج: ص:  >  >>