للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التخصيص المنفصل]

١- أما التخصيص المنفصل -أي: بالتخصيص المنفصل- فقد يكون التخصيص بالحس، وذلك مثل قول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:٢٥] فالمحسوس أن السماوات ما دمرت، وأن الأرضين ما دمرت، وأن الجبال ما دمرت، فالمقصود: تدمر كل شيء أذن لها في تدميره، من أبنية عاد وأشجارهم ومنافعهم.

٢- وكذلك من المخصصات المنفصلة: العقل، فإنه يخصص العموم، كقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:٦٢] فالعقل يقتضي أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق نفسه فهو غير مخلوق، فهذا تخصيص بالعقل.

٣- ثم بعده التخصيص بالنص، وهو الذي فصل فيه المؤلف فقال: [يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب] ، أي: أن يأتي العموم في الكتاب، ثم يأتي بعده نص آخر من الكتاب يقتضي تخصيصاً، وذلك مخصص منفصل، فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:٢٢٨] ، فهذا اللفظ جاء عاماً في كل مطلقة سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، ولكنه خصص بنص آخر، وهو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:٤٩] فهذا اللفظ تخصيص للفظ الآخر.

- وكذلك يجوز [تخصيص الكتاب بالسنة] ، فالله تعالى يقول في كتابه بعد ذكر المحرمات من النساء وهن خمس عشرة امرأة قال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:٢٤] والمحصنات هن المتزوجات.

{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:٢٢-٢٤] بالسبي، كما إذا كن متزوجات في الكفر فسبين في الغزو، فإن السبي يهدم النكاح.

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء:٢٤] ، (أحل لكم ما وراء ذلكم) فـ (ما) هنا من ألفاظ العموم، وهي مقتضية أن كل ما عدا الخمس عشرة امرأة حلال، ولكن خصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في السنة بقوله: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، فهذا تخصيص لعموم قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) .

- كذلك يخصص الكتاب أيضاً بالإجماع، ولم يذكر ذلك هنا في النص؛ لأن الإجماع في الراجح لابد أن يكون معتمداً على مستند، وذلك المستند من النص هو المخصص الحقيقي، وإنما يدل الإجماع على التخصيص به فقط، وذلك مثل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:٤] ، فهذه الآية عامة في الحر والعبد، لكنها خصصت بالإجماع بأن العبد القاذف يجلد على النصف من الحر، ولم يرد ذلك في النص، لكنه إنما جاء في الإماء في حد الزنا في قول الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:٢٥] ، فحمل المسلمون العبد الذكر على الأمة الأنثى في تجزؤ الحد مطلقاً، وكان ذلك بالإجماع، فانعقد الإجماع على هذا.

- وكذلك قد يخصص الكتاب بالقياس، وذلك مثل قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢] فيقاس العبد الزاني على الأمة في تنصيف الحد؛ لأن الأمة ذكر فيها التنصيف {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:٢٥] فيقاس العبد الذكر على الأنثى.

- كذلك قال: [وتخصص السنة بالكتاب] يخصص عموم السنة بالكتاب أيضاً، وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ، فإن ذلك خصص بقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] فالحديث أطلق القتال حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، والآية خصصت من ذلك من قبل دفع الجزية، فإنه تقبل منه الجزية ولا يقاتل.

- قال: [وتخصيص السنة بالسنة] كذلك تخصص السنة بالسنة، ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) ، فهذا عام في القليل والكثير، وقد خصصته السنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، فالحديث الأول عام في القليل والكثير، والحديث الثاني خصصه بأن ذلك في خمسة أوسق فما فوقها.

[وتخصيص النطق بالقياس، ونعني بالنطق قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم] أي: أن الكتاب والسنة كلاهما يخصص بالقياس.

فتخصيص الكتاب بالقياس كما سبق في قياس العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا.

وأما تخصيص السنة بالقياس، فمثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) ، فخص من الحديث العبد قياساً، فيتنصف الحد في حقه قياساً على الأمة.

وهذا معنى قوله: [ونعني بالنطق] أي: المنطوق، وهو الكتاب والسنة، أي: قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>