للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الوداع الأخير في السجن لابن تيمية]

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

قبل أن أدخل في الدروس المستفادة من حياة شيخ الإسلام رحمه الله أريد أن أقول: إن جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية كانت من أكبر الجنازات التي شهدها العصر، حتى أن الذين ترجموا لشيخ الإسلام ابن تيمية قالوا: لن تُعرف جنازة فيها كثرة بعد الإمام أحمد مثل جنازة ابن تيمية، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول للمبتدعة: بيننا وبينكم شهود الجنائز؛ لأن حضور الجنازة إنما تكون لوازع الحب المحض، لكن الدنيا ممكن أن يذهب الإنسان إلى الآخر وهو يكرهه لأجل مصلحة أو أنه خائف منه، والناس الذين يأتون العوام، يقولون: مات العمدة الكل ذهب يعزي ومات العمدة ولا أحد ذهب؛ لأن المطلوب رضا العمدة، فرضا العمدة حال حياته وكان لا يزال بينهم، لكن مات العمدة وانتهى الأمر.

وعندما تجد الجنازة حافلة بالناس تعلم أن هذا الرجل الميت كان طيب الذكر وله مآثر ومناقب، وأنه من أهل الجنة طالما النفس تحبه وإلا فهناك مثلاً جنازة جمال عبد الناصر كان فيها ملايين الناس، ولا يلزم أنه من أهل الجنة كذلك عبد الحليم حافظ مطرب الشباب لما توفي في الإسكندرية خرج الشباب يبكون حزناً على العندليب، طيب هذا نعمله ماذا؟ نحن نقول: إن الرجل المتطهر في حياته الملتزم بالكتاب والسنة، وظاهره الاستقامة، فالناس الذين خرجوا في جنازته يدل على أن هذا من حسن الخاتمة، لأنه كان ملتزماً بالكتاب والسنة، فهذا والله أعلم ظاهره الصلاح أو كان يصلي ويفتي في الناس لأجل أن يقال: عالم أو كان طيب الذكر، وهناك بعض العلماء والمصلحين لم يمش في جنازته إلا واحد أو اثنان، فهذا حسن البنا رحمه الله كما هو مذكور في ترجمته لم يُمكَّن لأحد أن يمشي وراءه إلا أبوه الشيخ عبد الرحمن البنا رحمه الله، والد الشيخ حسن البنا كان رجلاً بارعاً في علم الحديث، والحقيقة أن هذا الرجل كان لا يعرفه أحد، وهو أفضل من ابنه بالنسبة لخدمة العلوم الشرعية؛ لأنه عمل عملاً جباراً فعلاً، الرجل ظل خمساً وعشرين سنة وهو يؤلف كتاب الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد على الأبواب الفقهية بدءاً بكتاب الطهارة ثم الصلاة إلخ، ثم المسانيد يذكرها في نفس الأبواب الفقهية كمسند عمر وعثمان وعلي حتى يمر على الصحابة ثم على أمهات المؤمنين المهم يذكر كل مسند صحابي فيه أحاديث متتابعة، فمثلاً: حديث: (توضئوا من ما مست النار) تلقاه عن أبي بكر وعن أبي هريرة وعن ابن مسعود وعن جابر وعن فلان وفلان، فيجمع كل الأحاديث هذه بمسانيدها ويضعها في باب واحد (باب: الوضوء مما مست النار) فهذا عمل جبار لا يعلمه إلا أهل العلم.

فعندما قتل حسن البنا رحمه الله فلم يسمح لأحد أن يمشي في جنازته إلا أبوه وواحد مثلاً، فلا يعني أننا نحط بقدر عبد الحليم حافظ أو أم كلثوم.

وأمامنا مثلاً واحد لا يمشي في جنازته إلا أبوه! لا، نحن نقول: الضابط أن يكون الرجل متظاهراً بالكتاب والسنة، عاملاً بهما، منافحاً عنهما، فعندما تنظر إلى الجمع من الناس في جنازته تعرف أنها من علامات حسن الخاتمة.

الإمام أحمد رحمه الله كان يقول: بيننا وبينكم شهود الجنائز.

فإذا مات الإنسان فإن الهيمنة تذهب حتى أشار إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طلب من عبد الله بن عمر أن يذهب إلى عائشة ويستأذنها في دفن عمر في الحجرة وقال لابنه قل لها:: عمر ولا تقل لها أمير المؤمنين، فإني لست اليوم بأمير للمؤمنين، فلما ذهب إليها عبد الله بن عمر فقالت: والله إني كنت أعدت هذا القبر لنفسي، لكني أوثر به عمر، فقال له عمر بن الخطاب: يا بني! إذا أنا مت استأذنها مرةً أخرى؛ حتى لا يلزمها الحياء وهو حي، أو قد يمنعها عيلة السلطان، فهو الآن بعدما مات وانتهت هيمنته وكل واحد راح لحاله استأذنها مرة ثانية ليعرف الرأي الحقيقي، هل يدفن مع صاحبيه، أم لا؟ فالمهم أن هذه الجنائز إقبال الناس عليها من علامات أن هذا الرجل كان طيب الذكر، لكن بالشرط الذي ذكرناه.

ذكر المترجمون الذين حضروا جنازة ابن تيمية أنهم زادوا على خمسمائة ألف، والنساء تزدن على خمسة عشر ألفاً، فأنت عندما تقرأ شيئاً في كتب المؤرخين لا تجعلها حجة شرعية، لا يأتي شخص يقول: هذا ابن عبد الهادي الحنبلي عندما ترجم لـ ابن تيمية ذكر أنه حضر جنازته خمسة عشر ألف امرأة، فهذا يدل على جواز أن النساء يخرجن لزيارة الميت، لا.

لا تأخذ الأحكام الفقهية من كتب المؤرخين، هذا مجرد حكاية ونص فقط لا غير، ليس له دخل في الأحكام الشرعية، ويخطئ كثير من الناس عندما يستنبط الأحكام الشرعية من هذا الوصف.

فهؤلاء الذين حضروا جنازة ابن تيمية والذين ما استطاعوا الحضور لبعد البلدان قيل: إنهم صلوا عليه صلاة الغائب أكثر من مائة وخمسين مرة.

وكان شيخ الإسلام يقرأ القرآن في السجن، فوصل إلى آخر سورة القمر {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤-٥٥] ثم مات، فأكملوا قراءة القرآن عليه وهو مسجى قبل أن يدفنوه؛ وهذا على رأي بعض أهل العلم أنه يجوز قراءة القرآن على الأموات.

والعجيب من شيخ الإسلام أن أول موقف يلفت النظر: أنه لما دخل السجن غير أهل السجن، مع أن الفروض النفسية للسجين قد لا تؤهله أنه يكون منفرداً، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية كان رجلاً فرغ حياته كلها للإسلام، ولم يكن متزوجاً، وكان باراً بأمه جداً، وقد ذكر بعض العلماء رسائله إلى أمه وقد نشرت في رسالة وهي: (رسائل شيخ الإسلام لوالدته) كانت دائماً توصيه بأن يهتم بنفسه فكان رده على أمه رفيقاً جداً يثني فيه على الله عز وجل وأن هذه عقيدة المتقين، وأن الله عز وجل أناط به الرد بها على المبتدعة، وأنه لا يستطيع أن يتخلى عن الدفاع عنها ويتمنى دعواتها وهو موفق بدعواتها له ويأتي بكلام يدغدغ عواطف أي أم، فكان باراً جداً بوالدته، مع قيامه بحق الإسلام وحق المسلمين في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فلم تكن حياته حياة المترفين، فلا يتخاذل الإنسان عن قول كلمة الحق والصبر عند المحن، فهو قد يكون في الخارج معتاداً على حياة معينة، تعود أن ينام ويتغطى بغطاء صوف ويشغل آلة التدفئة ولا يشرب ولا يأكل إلا من الأكل الجيد لكن في السجن، لا، لابد أن ينام على البلاط وبعدها يأخذ راحته وينظر فتحة الباب المهم فيجعله ذلك في وحشة وحزن وعدم أنس؛ فهذا يجعله يضعف حتى يترك مبادئه ولا ينتصر الدين بأمثال هؤلاء، لا بد للإنسان أن يوطن نفسه.

الإمام أحمد قال له أحد الناس: يا أحمد قلها كما قالها الناس تسترح، وقد قالها أساطين العلماء، أهو مخلوق؟ نعم مخلوق، حتى قيل لبعض العلماء وقد جاءوه يسألونه عن فتنة خلق القرآن، قال له: ما تقول: أمخلوق؟ قال: إياي تعني، قال: نعم، قال: مخلوق، انظر! أتى بتورية بينه وبين نفسه، لكن ليس هذا هو الجواب، لأن الجواب إنما يخرج على نية أو على فهم المجتمع، الجواب ليس على مرادك أنت، إياي تعني؟ الرجل ظن أنه يقول له: أتقصدني بكلامك فقال: أنا مخلوق؟ قال: نعم مخلوق، ثم نشر للناس؛ لكن الإمام أحمد بن حنبل لم يجرؤ العالم السابق ذكره فسلم من الأذى بجوابه لكن طواه النسيان ولا أحد يعرفه، لكن نعرف اسم أحمد بن حنبل، ونترضى عليه ونترحم، والذي أخذه الإمام أحمد بالصبر على المحنة كان أعظم جداً من العرض الزائل الذي حصله غيره.

<<  <  ج: ص:  >  >>