للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المقربون وما لهم يوم القيامة]

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:١٠-١٢] تأخر السابقون في الذكر عن أصحاب الميمنة وعن أصحاب المشأمة، لكن شرح حالهم وبين حالهم قبل أصحاب الميمنة، وقبل أصحاب المشأمة، فالله سبحانه وتعالى قال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:٨] ، ثم قال: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:٩] ، ثم قال: {وَالسَّابِقُونَ} [الواقعة:١٠] ، وفصل حال السابقين قبل أن يفصل حال أصحاب اليمين، وقبل أن يفصل حال أصحاب الشمال، وهذا مما يسميه علماء البلاغة: اللف والنشر، فاللف والنشر فحواه: أن الذي يلف آخراً عند فرده، ينشر أولاً، كأنك أتيت بشريط تلفه، فالذي لف في آخره، إذا أردت أن تفرده يخرج أولاً، وكمثال حسن له قوله تعالى في سورة آل عمران: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} [آل عمران:١٠٦] فذكر أهل الوجوه السود بعد أهل الوجوه البيض، ثم لما ذكر الجزاء قدم أهل الوجوه السود في الذكر على قاعدة اللف والنشر كما هنا.

قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:١٠] السابقون قطعاً هم السابقون بالخيرات والدرجات، والسابقون إلى الإيمان، والتصديق، فلأهل السبق في الخيرات دائماً فضل، ولذا يراعى تقدير أهل السبق في الإسلام، فمن طال عمره في طاعة الله واتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لابد أن يحفظ له هذا القدر، ولا يسفه ولا يزدرى ولا ينتقص، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:١٠] فالذين أنفقوا قبل الفتح لابد وأن يحفظ لهم هذا الإنفاق، إذ أنهم أنفقوا في وقت شدة، فإسلامهم متقدم، وإنفاقهم نافع في حينه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ خالد لما كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فقال له خالد: أتعيرونا بأيام سبقتمونا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لـ خالد: (لا تسبوا أصحابي -مع أن خالداً رضي الله عنه من الصحابة لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أسبق- قال: لا تسبوا أصحابي، والذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفة) .

ومن هذا الباب أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأنصار: (إن الأنصار قد أدوا ما عليهم، وبقي الذي لهم، فمن ولي منكم أمراً فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم) وفي رواية: (فليكرم كريمهم، وليتجاوز عن مسيئهم) ، فأهل السبق لهم فضل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فذكر الحديث وفيه: (فأقدمهم هجرة) ، فجعل لقدم الهجرة قدر.

وعلى ذلك فلتكن تعاملاتنا مع الناس، يوقر ويقدر من له سابقة في الخير، ومن شاب شيبة في الإسلام لا يزدرى ولا ينتقص، قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:١٠] ، وهذا حث على الامتثال السريع لأمر الله ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع تحت قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:١٦٩] .

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:١٠-١١] وهم في أعلى الدرجات وأعلى المراتب {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:١٢-١٣] ، الثلة المراد بها: الجماعة.

{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٤] .