للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.]

قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد:٢٤] ، وهذا كقوله سبحانه: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٣٧] .

وأما وجه الربط بين هذه الآية والآيات التي تقدمت فمن العلماء من يجعل السياق هذا كله في اليهود، ويقول: إن اليهود أصيبوا بمصيبة كبرى، وخيبة أمل عظمى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل عليه السلام، فكانوا ينتظرون مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرفون صفته، ويعرفون ما سيأتي به في الجملة، وقد أُخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به إذا بعث فيهم، كما قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:٨٩] ، فيقولون للذين كفروا: سيخرج منا نبي فنتبعه ونقتلكم نحن وهو قتل عاد وإرم، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل، ولم يأتِ من بني إسرائيل شرقوا لذلك، وكفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيهم نزل سياق الآيات عند كثير من المفسرين.

وهذه المصيبة التي حلت بهم لظنهم أن النبوة سلبت منهم وأعطيت لبني إسماعيل قد ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:٥٤-٥٥] ، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل بخلوا -أي اليهود- بالعلم، ولذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [النساء:٣٧] ، والمعنى عند فريق من المفسرين: يبخلون بالعلم، ويبخلون بإظهار صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، ولا يقتصرون على أنفسهم، بل ويأمرون الناس بالبخل، فكانوا يتواصون فيما بينهم بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويتعاهدون فيما بينهم على أن لا يخبروا أحداً بصفة هذا النبي، ويبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٣٧] أي: من العلم الذي آتاهم الله إياه.

فهذا وجهٌ من أوجه التأويل، ومن العلماء من حمل البخل على معناه الأشهر وهو البخل بالمال، وهذا أيضاً كان في اليهود -أعني البخل-، وكان البخل من عادتهم.

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدَُ} [الحديد:٢٤] ، أي: يعرض عن الإيمان والهدى فإن الله هو الغني عنه وعن إيمانه، كما قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئاً) .

فقوله تعالى: (هُوَ الْغَنِيُّ) أي: عن من أعرض عن الهداية.

وقوله تعالى: (الْحَمِيدُ) أي: يحمد لكل مؤمن ولكل مقبل عليه صنيعه وإقباله وطاعته.

قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:٢٥] .

قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أي: الأمور البينة الواضحة والدلائل البينة الواضحة.

وقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) ، الكتاب هنا اسم جنسٍ، والألف واللام لبيان الجنس لا للعهد، أما قوله تعالى في شأن النبي محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النساء:١١٣] فالألف واللام في كلمة (الكتاب) للعهد، وتدل على كتاب معهود هو القرآن، أما قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) ، فالمراد بالكتاب هنا الجنس.

أي: الكتب، وليس كتاباً مخصوصاً، بل عموم الكتب التي نزلت على الرسل عليهم الصلاة والسلام.

قوله تعالى: (وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) .

من العلماء من قال: المراد بالميزان: العدل، ومنهم من قال: إن الميزان نزل من السماء مع ما نزل على آدم صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:٦] ، فمن العلماء من قال: إن هذه الأنعام خلقت.

ومنهم من قال: نزلت.

والله سبحانه وتعالى أعلم بتأويل كتابه.

ومن العلماء من قال: نزل مع آدم لما نزل الميزانُ والسندانُ.

وذكروا أشياء أخر، وليس في هذا خبرٌ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام، إنما هي أخبار إسرائيلية، وآثار على بعض التابعيين رحمهم الله تعالى.

قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) .

هذه الآية استدل بها العلماء على الشدة إذا لم تُجدِ البينات والأقوال الحسنة والدلائل الظاهرة، وأساليب الإقناع، وأعرض الشخص عن هذا جدلاً ومراءً، وضرب بآيات الله عرض الحائط كما يقال، فلا يصلح مع مثل هذا إلا البطش والشدة، فلذا قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فمن لم يتذكر بالبينات، ولا بالكتاب الذي أنزله الله سبحانه لا يصلح له إلا الحديد، ففيه بأسٌ شديد ومنافع للناس، فهذه قاعدة يسار عليها، فهي أن وسائل الإقناع تطرح أولاً ويُبدأ بها، ومن عاند وأصر على مواقف الشر فليس له إلا الحديد.

قال تعالى: (بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فالشدة لها مواطن، والرفق واللين لهما مواطن، وقد تقدم شيءٌ من ذلك، كما قال ذو القرنين: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:٨٧-٨٨] .

وقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢٠-٢١] .

وقال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:٥٩-٦٠] ، فكل هذه أمور فيها شدة، وفيها رفق، فللرفق مواطن، وإذا لم يُجدِ الرفق فحينئذٍ يتجه إلى الشدة.

فمن يعبث في الفصل -مثلاً-، أو يعبث في البيت تكلمه بالكلام الحسن وبالكلام الطيب، فإن كان لا يجدي معه ولا ينفع فحينئذٍ تترقى إلى شيء آخر، وهو الضرب بحسبه، وقد قال الله أيضاً في شأن النساء النواشز: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:٣٤] .

قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} .

بعد نزول الحديد يعلم الله من يجاهد بهذه السيوف في سبيله سبحانه وتعالى، علماً ينبني عليه الثواب.

وحتى لا يتوهّم شخص كما توهم أهل الجهل من اليهود أن الله فقير لما حثهم الله على الصدقة دفع الله هذا التوهم هنا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:٢٥] ، فلا يحتاج إلى من ينصره، بل هو سبحانه وتعالى ناصرٌ لعباده، وهو سبحانه وتعالى القوي العزيز الذي لا يمانع، ولا يغلب سبحانه فهو القهار.