للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مردّ تعجيل العذاب للمجرمين وتأخيره إلى الله سبحانه

فالآية الكريمة أفادت أنه ليس كل مذنب يعذب في الدنيا، ولا يلزم أن يعذب كل مجرم في الدنيا على جرائمه، بل قد يدخر العذاب للمجرمين إلى يوم القيامة، فأنت -يا مسلم- قد يظلمك شخص، فتقول: ها هو جالس يظلمني، يضربني، ويأكل مالي، وينتهك عرضي، فلماذا لم يعذبه الله سبحانه وتعالى؟! ولماذا يتركه الله سبحانه وتعالى ويمد له من النعيم مداً؟! فالإجابة: أنه ليس كل ذنب تعجل عقوبته في الدنيا، بل هناك من الذنوب ذنوب تؤخر وتدخر لأصحابها العقوبات إلى الآخرة، ونحو ذلك ورد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠] قال كثير من المفسرين: إن الذين خدوا الأخاديد للمؤمنين، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، لم يذكر أنهم عذبوا بعذاب صريح في الدنيا، فعلى ذلك فعذابهم مدخر في الآخرة.

وقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠] قولاً مرجوحاً مطروحاً وهو: أنهم بعد أن قذفوا المؤمنين في النار تطاير عليهم من شررها فأحرقهم وهم قعود ينظرون إلى أهل الإيمان، ولكنه قول مطرح، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فالشاهد: أنه ليس كل مجرم يعذب في الدنيا، بل قد يدخر العذاب للمجرمين في الآخرة؛ ولذلك لما قالوا في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، أجابهم الله بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:٨] .

فليس للمسلم من أمره شيء، فقد يدخر الله العذاب لظالمه وقد يعجله، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من ظلموه باللعنة فقال (اللهم! العن فلاناً وفلاناً، نزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:١٢٨] ) ، وكما في الآية الأخرى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:٤٦] ، وقال تعالى في الآية الثالثة: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر:٧٧] ، أي: قبل أن نرينك الذي وعدناهم من العذاب، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:٧٧] ، فقوله سبحانه: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر:٧٧] ، أي: يا محمد! قد نشفي لك صدرك في الدنيا بأن نريك في عدوك ما يريحك ويذهب غيظ قلبك، ونريك فيه العذاب قبل مماتك، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر:٧٧] قبل أن ننزل العذاب عليهم، وقد كان هذا وذاك، فشفى الله صدر نبيه محمد من أقوام قد ظلموه وآذوه ولعنوه وسبوه، فهاهو يقف يوم بدر على بئر قد ألقيت فيه جيفُ المشركين: أبو جهل، وعتبة، وشيبة، فيناديهم: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا أبا جهل بن هشام! ويا أمية بن خلف! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً؟) الحديث.

وثم أقوام آخرون كـ مسيلمة الكذاب اغتم الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنه شيئاً ما، واطمأن لما رأى في يديه سوارين فنفخهما فطارا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فكان صاحب صنعاء الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، ولكن مسيلمة ما قتل إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى ذلك قوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:٧٧] ، مع قوله سبحانه: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:٨] ، فيهما ما يعزى به المسلم الذي أصيب من ظالم، أو الذي انتهك عرضه ظالم، فلتقر عين كل مظلوم فإن الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر.

قال تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:٨] ، أي: بئس المصير الذي يصيرون إليه.