للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا.]

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُم} [المجادلة:١١] ، وهذا من أدب المجالس، إذا قيل لك: تفسح في المجلس شيئاً ما، فتفسح، وليس للقادم أن يشق المجلس ويفرق بين اثنين إلا بإذنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) ، ولكن يحث على التفسح مذكراً بآية من كتاب الله ويقول: افسح يفسح الله لك، فحينئذ تقبل بقلب طيب، وتفسح له أنت وأخوك، وكان الصحابة يجلسون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل يضن بمجلسه ولا يريد أن يفسح لأحد، كل منهم يريد أن يقترب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما أحياناً تأخر بعض الفضلاء، فالناس مراتب ودرجات، فضل الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض، وإن كانوا في الخيرية من ناحية صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، لكن في الصحبة أيضاً تفاضل، فربما تأخر بعض الأفاضل أحياناً كـ أبي بكر رضي الله عنه، أو عمر رضي الله عنه أو غير هؤلاء من كبار الصحابة، تأخروا شيئاً ما لعذر، فيأتون إلى مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سبقهم غيرهم، فيضن الناس بمجلسهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يريد أحد أن يفسح لإخوانه، فأرشدوا إلى هذا الأدب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:١١] ، أي: افسحوا لهؤلاء كبار السن، ولما لهؤلاء السابقين الأولين من حق وقدر، فلكل كبير حق، ولكل سابق بالخيرات قدر، وديننا من أصوله إنزال الناس منازلهم، من الأصول التي دعت إليها وحثت عليها سنة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ إنزال الناس منازلهم، الكبير له حق، والجار له حق، وكل له حق مشروع في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكون أحد هؤلاء الفضلاء، أحد هؤلاء السابقين الأولين، أحد هؤلاء كبار السن؛ يأتي وقد سبقه الصغار، فيطلب من الصغير أن يفسح له وهو لا يفسح فأدبه فيه خلل، ولذلك أُرشدوا إلى هذا الخلل كي يتقوه وكي يبتعدوا عنه.

ومن ثم كان أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه -كما في سنن النسائي بسند صحيح-: (يأتي إلى الصلاة وقد أخذ الناس مصافهم في الصفوف فيأتي ويسحب شخصاً من الصف شاباً ويقف مكانه -وقد فعل ذلك أثناء الصلاة- فلما انقضت الصلاة التفت إليه الشاب مغضباً، وأبي كما هو معلوم من سادات الأنصار، وأعلم الصحابة بكتاب الله، أعلمهم بالقراءات، قال عمر: أقرؤنا أبي بن كعب، أضف إليه ما ورد فيه من الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبي إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: أو قد سماني الله لك يا رسول الله؟! قال: نعم، فبكى أبي بن كعب، فشخص مثل هذا الذي سماه الله لنبيه، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: اقرأ القرآن على أبي بن كعب، جدير بأن يوقر، وجدير بأن يفضل، وجدير بأن يحترم، فقال لهذا الشاب: يا ابن أخي! لا يسوءك، إنه عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نليه في الصلاة) .

فإذا جاء وطلب منك يا صغير أو يا متأخر الإسلام أو يا حديث عهد بالإسلام أن تفسح له، فلا يليق بك أن ترده خائباً، وأن تكسر خاطره، فكما سمعتم أن مراعاة المشاعر والأحاسيس عليها أكثر من مائة دليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أدلة متوافرة في مراعاة المشاعر وإنزال الناس منازلهم، وقد سمعتم طرفاً من ذلك فيما قبل.