للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات القياس في العقوبات والأحكام]

وقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: اعتبروا أن يصيبكم مثل الذي أصابهم إن أنتم ظلمتم، وإن أنتم غدرتم، وإن أنتم خنتم رسولكم محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن نقضتم العهود والمواثيق مع الله سبحانه وتعالى فاحذروا حينئذٍ أن يصيبكم مثل ما أصاب الذين نقضوا العهود وخالفوا العقود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالظلم عاقبته وخيمة، والغدر عاقبته أليمة، ونقض العهود والمواثيق مع الله ومع رسل الله عليهم الصلاة والسلام من أكبر الكبائر، ومن أعظم المصائب التي تسبب للشخص العذاب في الدنيا والآخرة، فقوله سبحانه وتعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: اتعظوا، وانظروا إلى أحوالهم، وما حل بهم لظلمهم! ومثل هذا يحل بكل باغ، وما هي من الظالمين ببعيد.

وقد استدل جمهور الأصوليين بهذه الآية الكريمة (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) على مشروعية القياس، وعلى ذلك جمهور أهل العلم، أي: انظروا يا أولي الأبصار! فإذا ظلمتم وبغيتم وغدرتم حل بكم مثل الذي حل بمن ظلم وبغى وغدر، فهؤلاء اليهود، انظروا إلى أمرهم! وتفكروا فيه وتدبروا! فإن أنتم صنعتم مثل صنيعهم حل بكم مثل الذي حل بهم، فالأمور تقاس على مثلها، ومن هنا استدل الجمهور على مشروعية القياس.

أما أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى فطفِق يتهكم على الاستدلال بهذه الآية، فقال -جرياً على ظاهريته-: من الذي قال: إن معنى قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) قيسوا يا أولي الأبصار؟! ويجاب عن قوله: بأنه ليس المراد أن لفظ (اعتبروا) بمعنى (قيسوا) ؛ ولكن المراد النظر فيما حل بسابق الأمم الظالمة، وسيحل بكم إن فعلتم فعلهم مثل الذي حل بهم.

وليست هذه الآية هي دليل القائلين بالقياس فحسب، بل لهم أدلة أخرى، ومن ذلك ما جاء في الحديث: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على راحلة، أفأحج عن أبي؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق أن يقضى) .

ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هششت فقبلت وأنا صائم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت؟) ، فقاس قبلة الصائم على المضمضة.

ومن ذلك ما ورد: (أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقاً، قال: فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول الله! عرق نزعها.

قال: ولعل هذا عرق نزعه) ، ولم يرخص له في الانتفاء منه.

والأدلة في هذا الباب كثيرة، والقياس -كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى- لا يُصار إليه إلا عند الضرورة، كما يصير الرجل إلى التيمم عند فقدان الماء، فلا يُصار إلى القياس مع وجود النص، وأما قول القائل: إن من قاس فهو إبليس، ويتهكم بذلك على من يقيس فقولٌ غير سديد، وإن كان أول من قاس هو إبليس لمّا أُمِر بالسجود فأبى وقاس وقال كما حكى الله تعالى عنه: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] ، وكذلك حكى الله تعالى عنه قوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:٦١] أي: كما أن النار أفضل من الطين بزعمه، فكيف يسجد من خُلِق من شيءٍ أفضل لمن خلِق من شيءٍ أدنى؟ والإجابة: أن هذا قياس باطل فاسد؛ لأنه قياس مع وجود النص، ووجود الأمر من الله سبحانه وتعالى؛ إذ قال الله سبحانه وتعالى له وللملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:٣٤] ، فلا اجتهاد ولا قياس مع النص بحالٍ من الأحوال.