للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الزواج بالإماء]

قال تعالى: ومن لم يستطع منكم -يا أهل الإيمان- طولاً.

أي: سعة وغنىً، فالطول يطلق على السعة الغنى.

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} المراد بالمحصنات هنا: الحرائر، أي: فمن لم يستطع منكم أن يتزوج النسوة الحرائر لغلاء مهورهن فهناك الإماء، فدل ذلك على هذا الشيء، وهو: أن الحرائر كانت مهورهن أعلى من مهور الإماء، فيأخذ منه من طرف خفي مشروعية مهر المثل، فللحرائر سنة في الصداق، وللإماء سنة في الصداق، ومهر المثل قد تقدمت بعض الأدلة عليه، في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} (تقسطوا في اليتامى) -كما فسرتها عائشة -: أي: تبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق.

فدل ذلك على أن أو للنساء سنة في الصداق.

أي: قدر معين، وهذا القدر ليس بثابت بل هو يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان.

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} أي: سعة، {أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} أي: الحرائر منهن، {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: فمن الإماء، {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إذا تزوجت الأمة لزمك أن تعدل بينها وبين الحرة، لكن إذا اشتريت الأمة فلا يلزمك أن تسوّي بينها وبين الحرة في القسمة.

{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} .

أي: مؤمنات في نظركم، فقد تكون مؤمنة في الظاهر وليست مؤمنة حقيقة، فلذلك جاء قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} يعني: لكم أن تحكموا بالظاهر وتقدموا على زواج الإماء المؤمنات، فأنت قد تقدر وتحكم بأن هذه الأمة مؤمنة لكن في الحقيقة الله أعلم بها، فلذلك جاء الاحتراز لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض} وكقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْب} بماذا؟ ليس حافظات للغيب باجتهادهن، ولا بقوتهن، ولا بصلابتهن، إنما حافظات للغيب بما حفظ الله، حتى لا تظن الصالحة أنها تحفظ غيب زوجها باجتهادها، فالمرأة أصلاً ضعيفة، ولكن حفظها للغيب بتثبيت من الله وبفضل منه سبحانه وتعالى، وهذا تنبيه حتى لا يبتعد الشخص أبداً عن ربه سبحانه وتعالى، بل يكون دائماً طالباً من الله الثبات والنجاة، والسداد، والحرص، والتوفيق في الحكم على الأشخاص.

{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي: من الإماء المؤمنات {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} فدل ذلك على الولاية في النكاح وكون المرأة لا تنكح إلا بإذن أوليائها، فمن كتاب الله آيات تحث على الولاية في النكاح، كما أن في سنة رسول الله أحاديث كحديث: (لا نكاح إلا بولي) وحديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) .

أما الآيات التي في كتاب الله تحث على الولاية في النكاح: فمنها: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} .

ومنها: قوله تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:٢٢١] ، فقوله: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:٢٢١] أي: لا تزوجوا المشركين، فيه دليل على أن الذي يزوج هو الولي.

وكذلك في قوله تعالى في سورة النور: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:٣٢] ، (وأنكحوا) أي: زوجوا، فدل على أن الأولياء هم الذين يزوجون.

{فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} المراد بالأجور هنا: المهور، {بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي: عفائف غير زوانٍ، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} والأخدان هم العشّاق، فلا هي زانية، ولا هي متخذة خليل.

أي: عاشق.

إذاً: الأمة تنكح إذا كانت (محصنة) أي: عفيفة.

(غير مسافحة) : غير زانية، (ولا متخذات أخدان) أي: عشاق.

{ذَلِكَ} في هذا الحكم والحث على زواج الإماء، {ذَلِكَ} الترخيص لكم في زواج الإماء، والإرشاد لكم في زواجهن {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي: للذي يخشى على نفسه العنت، والعنت: هو الشدة، والمراد به: الوقوع في الفحشاء عياذاً بالله، فالذي يخشى على نفسه العنت له أن يتزوج الإماء.

وقد طرح بالأمس القريب

السؤال

شاب في العشرينات، متخرج من الجامعة، ولا يجد مالاً يتزوج به، ولا يجد مسكناً يتزوج فيه، ولا يستطيع أن يحصل على المسكن وعلى تكاليف الزواج الباهضة التي فرضها الأولياء فيكسرون بها ظهور الأزواج، وأمامه سنوات وقُدِّر عليه في عمله أن يعمل في وسط نسوة وهو شاب قوي، فيسر الله له امرأة مات عنها زوجها وترك أولاداً معها، وعندها شقة مفروشة، وهي موافقة على أن تتزوجه، ويدخل عليها في الشقة ويعفها ويرعى أولادها، وهو في الوقت نفسه يبتغي وجه الله برعاية الأيتام، ويعف نفسه من الوقوع في الفاحشة، فجاءت أمه واعترضت على هذا الزواج، والشاب يخشى العنت، فهل يجاب بأن يقال له: أطع أمك التي لا تستند في تصرفها إلى دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله إلا الأسلاف والأعراف السائدة، فهل نقول له: أطع أمك أم عف نفسك؟ فالإجابة: عف نفسك وبر والدتك أيضاً بكلام طيب حتى تنجو من العنت الذي أنت فيه، فرب العزة رخص في الزواج من الأمة، وهذه المرأة أحسن حالاً بلا شك من الأمة؛ لأنها حرة، بل أضف إلى كونها حرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) ، وقال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقال: (السعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) إلى غير ذلك من الأدلة.

فقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فيه ترخيص لمن خشي العنت من الشباب ولا يجد مالاً أن يتزوج الإماء، فمن باب أولى أن يتزوج الثيبات اللواتي يوفرن عليه المال.

والنبي محمد عليه الصلاة والسلام خير الناس وسيد ولد آدم سلك هذا المسلك، فقد كان فقيراً عليه الصلاة والسلام ثم تزوج بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها.

{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي: أن تصبروا عن نكاح الإماء، وليس النساء اللواتي هن أرامل، إنما الصبر عن نكاح الإماء خير من المبادرة إلى نكاحهن.

لماذا: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ؟ ذلك لأن الولد يسترق، فأمه أمة عند شخص فالولد يأتي مسترقاً، وتلك هي العلة من التوقف أو الصبر عن زواج الإماء، لكن الناس يختلفون.

والآية فيها: إباحة زواج الإماء لمن خشي العنت: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} ، فهل من لم يخش العنت يحرم عليه أن يتزوج الإماء؟ لا يحرم عليه على الصحيح، وله أن يتزوج الإماء؛ لأن الله قال بعد أن ذكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:٢٤] ، فقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} غاية ما فيه: مزيد ترخيص لمن لم يستطع طولاً أن ينكح المحصنات من المؤمنات، {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .