للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الفاسقين)]

قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، إن قال قائل: ما المراد بالهداية هنا؟ قلنا: الهداية هنا هداية التوفيق، فالله سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية الدلالة {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:٧] ، فالمراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، أي: لا يوفق القوم الفاسقين.

يأتي سؤال آخر: كيف لا يوفق ربنا الفاسقين وقد آمن قوم من أهل الكفر والظلم؟ فكيف يقال: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:٥] ؟ فالإجابة: أن المراد بالفاسقين هنا: الفاسقون الذين سبق في علم الله أنهم يموتون على الكفر والفسق، فهؤلاء كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٩٦-٩٧] ، فالمسلك هنا كالمسلك في: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٦٤] ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨] ، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:٥] ، كلها على هذه الوتيرة عند أكثر المفسرين، يحملون (الفاسقين) هنا على من سبق في علم الله أنهم سيموتون على الفسق والكفر، هؤلاء لا يهديهم الله سبحانه ولا يوفقهم.

والفسق أنواع: يأتي بمعنى الكفر ويأتي دون ذلك، قال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤] ، فالفسق هنا الكفر، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ؛ فسباب المسلم ليس بكفر مخرج عن الملة، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٤] ؛ فالفسق هنا دون الكفر، وإسنادها ثابت بلا شك، وقد نزلت في رجال مسلمين، وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] ، نزلت أيضاً في رجل مسلم، والحديث حسن بمجموع طرقه.

وهذا من قواعد أهل السنة كما تقدم تقريره مراراً: أن هناك فسق دون فسق، وكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، ونفاق عمل، ونفاق اعتقاد، وشرك أكبر، وشرك أصغر، وهذه كلها أصول يسار عليها في تقرير المسائل والأحكام، فليس حديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر) ينسحب عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥] ، ليست الآية منسحبة على مثل هذا؛ لأن ربنا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] ، فهي أصول لابد أن تفهم، إذ بها جمع أهل السنة والجماعة بين مئات من الأدلة التي ظواهرها التعارض، وبين مئات من المسائل التي أشكلت على كثير من الفرق، فوقعت بسببها إما في الإرجاء، وإما في الرفض، وإما في بدعة الخوارج، وإما في بدعة النصب عياذاً بالله من ذلك كله! وصلى الله على نبينا محمد وسلم.